هل تدين حماس

مقال في تفاهة نقد العنف

هناك سؤال شهير يوجهه المحاورون لضيوفهم عندما يكون موضوع النقاش هو القضية الفلسطينية هو (هل تدين حماس Do you condemn Hamas)، و علي الرغم من أن الموضوع صار مزحة علي السوشيال ميديا من كون السؤال كليشيهي إلا أنه سيق كواحد من مبررات الفيتو الأمريكي لقرار الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار و حتي إنجلترا التي إمتنعت عن التصويت علقت بنفس التعليق: القرار لا يشمل إدانة لحماس.

السؤال ليس جديداً و ليس خاصاً بالفلسطينين، لو نظرت للأمر من بعيد فإن السؤال لا يسعي لإدانة حماس في المطلق، في إدارتها لقطاع غزة مثلاً أو فيما يتعلق بأيديوليجيتها الإقتصادية، بل هو نقد لحماس في العنف الذي مارسته تجاه إسرائيل. لو نظرت للسؤال بهذه الطريقة فإنك ستجد أن هذا أسلوب متكرر في نقد العنف تجاه المنظومة الغربية، أن تنتقد العنف و لا تتجاوز للتساؤل عن دوافع هذا العنف، و ستري هذا مثلاً في نقد أعمال الشغب العنيفة التي تقوم بها الفئات الفقيرة في إنجلترا و فرنسا مثلاً و التي بدأت بقتل اللشرطة لاشخاص من الأقليات سواء السود أو العرب، و مثلها أحداث في أماكن أخري من العالم الغربي، عندها يصير الكلام كله عن نقد العنف و لا يتعداه للتساؤل عن السبب الذي أدي لهذا العنف، و نقد العنف سهل يمكن أن يقوم به أي طفل، لا أحد يحب العنف و الأمر لا يحتاج عبقرية لتصل لهذا التحليل، لكن ما أن نتساءل عن السبب الذي أدي لهذا العنف فإننا سنختلف و ستظهر علي الطاولة إجابات قد لا تعجب الكثيرين. من هنا يكون من الضروري حجب النقاش عن ما هو أبعد من مجرد الإدانة السطحية للعنف. هذا مثال علي المناقشات التي يكون السؤال فيها نفسه خطأ و ليس الإجابة عليه.

جزء مهم من هذه المحاورات هو نقد العنف الجسدي القاتل فقط، بمعني أنك تنتقد العنف الذي أدي لإصابة فلان أو مقتل علان، لكن القمع الممنهج، و الذي يؤدي للموت البطيء لا يسمي عنف، بمعني أن إفقار الناس و تعجيزهم عن الوصول لأسس الحياة الكريمة و الحقوق الآدمية المتفق عليها من الجميع تقريباً لا يسمي عنفاً بالتالي يتم إستثناؤه و التعامل معه علي أنه شيء أقل سوءاً أو تأثيراً أو يمكن التغاضي عنه بشكل ما، بالتالي ننتقد عنف المتظاهرين الفرنسيين و عنف المتظاهرين الإنجليز لكن لا تعتبر أن حياتهم اليومية نوع من العنف الممنهج الذي يتم فيه تضييق العيش عليهم بإنتظام. هذا دفع بعض المنظرين و الفلاسفة لمحاولة التفريق بين النوعين بإستخدام الفاظ مثل عنف و عدوان violence and agression أو جعلهم كلهم صور من العنف بوصفهم بأنهم عنف ذاتي و عنف موضوعي objective and subjective violence.

في هذه المحاورات لابد من التجاوز أيضاً عن سؤال (ما هو البديل الفعال غير العنيف)لأن الإجابة في كثير من الأحيان ستكون أن الناس جربوا كل الأساليب السلمية لكن هناك منظومة أكبر منهم ضمنت أن لا يكون لأي اسلوب جدوي في تغيير حياتهم فلجأوا للعنف، بوعي أو بغير وعي. فعلياً لا يوجد بديل فعال و إن كان هناك بديل فإنه يذكر بشكل عام و بإشارة غامضة غير مفصلة من بعيد، و هي نوعية الإجابات التي يسميها الغربيون التشويح باليد hand waving بمعني الإشارة باليد في إتجاه غير محدد.

لا يمكن أيضاً النظر لهذا بدون النظر للفكرة الطفولية القائلة أن الحياة يمكن أن تسير بدون عنف، و هي الفكرة التي يتم الترويج لها بقصد أو بدون عند الكلام عن أشكال التغيير السلمي، مثل ما فعله غاندي في الهند، المثال ساحق الشهرة شديد التهافت في رأيي. هي فكرة طفولية لا تصمد لخمس دقائق من التفكير لأن الحياة لا تسير بهذا الشكل. لا يمكن لإمبراطورية مثل الإمبراطورية الإنجليزية أن تترك مستعمرة ضخمة فقط لإن هناك حراك سلمي مهما كان حجمه ضدها. الإمبراطوريات تترك مستعمراتها فقط عندما تصير تكلفة الإحتفاظ بها أكبر بكثير من العائد منها. هذه التكلفة تأتي عادة بأشكال من العنف، في حالة الهند مثلاً كانت هناك الكثير من الهيئات و الجماعات التي تحارب الإنجليز، و غاندي كان واجهة لطيفة لتبيض وجه الإنجليز، بالتالي بدلاً من التعاون مع التنظيمات العنيفة يستقبل ملك إنجلترا غاندي و يتحاور معه و يتم الترويج لكيف يمكن للسلام أن يعم الكون فقط لو إستمعنا لبعضنا البعض إلي آخر هذه الأفكار الطفولية بدلاً من تصريح الإمبراطورية الإنجليزية بأن هناك ضغوطاً تجعل الإستمرار في إحتلال الهند مرهقاً و أحد أسباب هذه الضغوط هي اعمال العنف و سنقبل التفاوض مع من سيقوم بأعمال العنف لاننا مضطرين. أصلاً القائمون بالعنف كان الكثير منهم من أتباع غاندي، و قاموا بالكثير من أعمال الشغب عندما إعتقله الإنجليز، بالتالي أصلاً فصل العنف حتي عن أتباع غاندي المباشرين غير ممكن. تشرشل كان شديد الكراهية لغاندي لهذا السبب و يراه شخص مخادع لأنه يتظاهر بالورع و الزهد و حب السلام لكن ما يفعله فعلياً يغذي السلوك العكسي لدي الناس، التظاهر بالسلم و إنتقاد أتباعه شخصياً حين يواجهون الإنجليز بعنف (رد عليه الإنجليز بمجازر) لا يمكن أن ينتج عنه إلا المزيد من الغضب وسط أتباعه من مدي خيرية قائدهم و سفالة الإنلجيز الذين يسجنوه. غاندي شخصياً قام بحملة للترويج لتطوع الهنود في الحرب العالمية الأولي تحت راية الإنجليز و في خطاب دعوته لهذا كان من ضمن ما ساقه من حجج أننا إن أردنا أن نغير حالنا علينا أن نتعلم كيف نحمل السلاح و نتستخدمه. إن أردنا تعلم إستخدام السلاح بأكبر قدر من الكفاءة فإن الإنخراط في الجيش هو واجبنا جميعاً! لن أتكلم هنا عن فائدة مقاطعة البضائع الإنجليزية، و هو وضع معين لا يمكن تكراره بنفس الكفاءة في كل مكان لأسباب يطول شرحها لكن يمكن إعتباره من أشكال الضغط التي لا تتوفر لكل الناس في مختلف مواقف الدفاع عن أنفسهم. العدوان الثلاثي لم يترك قناة السويس إلا بسبب عنف خارجي لوح به الإتحاد السوفيتي، معاهدة السلام بين مصر و إسرائيل و التنازل عن سيناء كانت فكرة مرفوضة حتي لو كان المقابل الإعتراف بإسرائيل من قبل كثير من القادة الإسرائيليين - منهم موشي ديان- قبل حرب 73، أي قبل أن ينظر الإسرائيليين للمصريين علي أنهم تهديد حقيقي كبير، و الأمثلة لا تعد ولا تحصي.

العنف أساس من أسس الحياة ولا يمكن قبول فكرة أن هناك الوسيلة الوحيدة لضمان الحقوق هي التفاهم و التأخي و البحث عن المشترك إلي آخر هذه الأشياء، بجانبها يوجد العنف أو علي الأقل الخوف من إستخدام الطرف الآخر للعنف كعامل مؤثر في الحياة. هناك تقنين للعنف مثل إحتكار الدول للعنف، لكن الكلام عن نقد العنف كفكرة من الأساس بهذا التسطيح هو إستخفاف بالناس أو تدليس في أحسن تقدير.

إسرائيل جاءت متأخرة 200 سنة

أحد الأوصاف المتكررة التي وصفت بها إسرائيل أنها جاءت متأخرة 200 سنة. بشكل ما يمكن القول بأن كل الدول الحديثة تم تأسيسها بقدر من العنف، المشكلة أن العنف الإسرائيلي جاء في زمن لم يعد فيه ما كان مقبولاً في الماضي مستساغاً اليوم. ما حدث عند تأسيس الدول التي تشكل اليوم الأمريكيتين، ما حدث عند تأسيس الدول الغربية بهوية قومية من بقايا إمبراطوريات القرن السادس عشر، كل هذا تم بالكثير من العنف لكن هذا العنف لم يعد مقبولاً اليوم. سيمون وايزنثال، الكاتب اليهودي الشهير و متتبع النازيين، قال " يوماً ما سيدرك الناس أنه لا يمكن تأسيس دولة إلا و وجد بعض الناس الذين كانوا يعيشون في هذا المكان ممن يتم التعدي علي حقوقهم لأنه لا يوجد مكان لا يسكنه بشر اليوم إلا لو كان غير صالح للحياة أصلاً. سيكون من اللطيف لو أمكن الحفاظ علي هذه الإنتهاكات في أقل الحدود و لو تأثر بها عدد قليل من الناس. هذه كانت الحالة عند تاسيس إسرائيل فقد كانت هناك جالية يهودية تعيش هناك و أقلية من العرب الذين لديهم الكثير من الخيارات عند ترك المكان “!

المثير للسخرية أن هذا الكلام نشر عام1988 في كتاب إسمه (عدالة لا إنتقام) يتكلم عن تتبعه للنازيين الفاريين و كيف أنه نوع من إقامة العدل في الأرض و ليس إنتقاماً مما حدث لليهود.

لو تجاوزنا عن المغالطة بقول أن الفلسطينيين كانوا أقلية وقت تأسيس إسرائيل، فنحن أمام بديهية سياسية يعرفها كل درس علوم سياسية: هناك إرتباط وثيق بين تأسيس الدولة الأممية nation state و العنف، المشكلة أن هذا العنف كان في الماضي في حالة معظم الدول، تم تطهيره بمرور الزمن. يقول سلافوي جيجك أنه بسبب مرور الزمن لم يعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية يمثل عبئاً نفسياً مثل دخول إسرائيل الذي وصفه جيجك بانه (دخول أرض محرمة أسست علي عنف غير شرعي). في الماضي كان ممكن القيام بهذا العنف، الوضع الإعلامي و السياسي و القناعات الفكرية كانت تسمح للغربيين بإبادة السكان الأصليين لأمريكا، الأخبار لن تصل للعالم المتحضر بالكفاءة المناسبة بسبب وضع وسائل الإعلام وقتها، العالم قناعاته الأخلاقية و الدينية تسمح بمرور هذا، فارق الحضارة بين الأمم كان ساحقاً يسمح للبعض بإبادة البعض بدون أدني مقاومة فعالة، الخ. لكن مشكلة إسرائيل أنها جاءت في زمن لم يعد فيه ممكناً القيام بما تم في الماضي. فارق التكنولوجيا الساحق لم يعد موجوداً، يمكن للفلسطيني أن يصل للقدر الكافي من التكنولوجيا الذي يمكنه من إيذاء إسرائيل، سواء بسبب سهولة إنتقال التكنولوجيا نسبياً أو لأن الفلسطيني لديه حلفاء يمدونه بالسلاح و التكنولوجيا و التي إن لم تماثل ما لدي إسرائيل فإنها بالتأكيد لا تقترب في البعد من ما كان يدور في المستعمرات في العالم الجديد، ولت أيام الشعوب المعزولة في أماكن مجهولة من العالم، ولت أيام إبادة السكان الاصليين بالكامل دون أدني إصابة لجندي واحد مستعمر . الفلسطيني يمكن أن يمثل صداعاً لإسرائيل.

فارق الإعلام الساحق لم يعد موجوداً: صارت هناك جرائد و قنوات تنقل الأخبار في لحظة وقوعها. في البدء كانت هناك سيطرة غربية علي وسائل الإعلام تناقصت مع الوقت بظهور السوشيال ميديا، و محاولات السيطرة علي السوشيال ميديا غير ممكنة لإن البدائل صخمة و رقابتها كلها شبه مستحيلة، و السبب الذي يجعل الإنترنت وسيلة فعالة لبيع المخدرات مع صعوبة منع و تتبع هذا هي نفس ما يجعلها وسيلة فعالة في إيصال ما يحدث للعالم كله دون نجاح الرقابة التي تمارسها بعض منصات السوشيال ميديا علي المحتوي.

و القناعات الفكرية نفسها صار من الصعب أن تبتلع هذا التأسيس القائم علي العنف. هناك ألمان قاموا بعمليات تفجير لمول في فرانكفورت في السبعينات دعماً لفلسطين، هناك حملات تتزايد مع الوقت للضغط علي السياسيين الداعمين لإسرائيل في العالم الغربي، الشركات الكبري التي كانت تدعم إسرائيل بلا حساب تحولت بالتدريج لشركات تكنولوجيا، أي أن شركات التكنولوجيا حلت محل الشركات التقليدية علي قائمة الدخل و الارباح و هذه صارت مع الوقت تخاف من الجالية العربية و الداعمة لفلسطين من العاملين في هذه الشركات. هذه شركات يملك فيها العاملين صوتاً قوياً بسبب كونهم كفاءات نادرة و مهاجرين عالي الكفاءة، بالتالي علاقات القوة داخل هذه الشركات تختلف بشدة عن المألوف في باقي الأماكن. في التسعينات أصدر مدير إنتل التاريخي أندرو جروف قراراً بمنع تخصيص أماكن لركن السيارات للمديرين، كانت هذه وقتها صدمة في عالم الشركات و الأعمال، فلما سئل عن هذا قال (أنا أدخل المقابلات بسلطة مستمدة من منصبي و يدخل المهندسين بسلطة مستمدة من معرفتهم بالتالي تكون مناقشات العمل غالباً متزنة بين نوعي السلطة، و توازن القوي هذا يجب أن ينعكس علي كل شيء في الشركة بما في ذلك أماكن ركن السيارات). هذه الأشياء كانت حدثاً في التسعينات لكنها اليوم بديهيات في مثل هذه الشركات - أحياناً أتخيل فيما يمكن أن يفكر فيه أصحاب الأفكار الكلاسيكية القديمة في نقد سلطة رأس المال إن رأووا شركات التكنولوجيا الحديثة- بالتالي يمكن أن تفهم لماذا صارت العبارات التي يتم التصريح بها من قيادات هذه الشركات بدلاً من أن تأتي بالدعم الصريح لإسرائيل تأتي بتمني حلول السلام و التبرع لكل المتضررين من الحرب من كل الأطراف. هناك تحسس من فكرة أن هناك كمية محترمة من العاملين من هذا الجانب و ذاك و لا يمكن للشركة أن تنزل بثقلها في دعم إسرائيل كما تفعل الشركات التقليدية بدون تمييز.

بمرور الوقت يصبح الأمر أصعب و أصعب علي إسرائيل أن تمرر فكرة تأسيس دولة حديثة قائمة علي العنف، و تصبح العبارة الشهيرة عن كون إسرائيل دولة جاءت متأخرة 200 عام أكثر وضوحا و إقناعاً.

ملحوظة أخيرة ليست ذات أهمية

الكثير من الأفكار في هذا المقال القصير الذي هو مجرد تنظير للبديهيات التي يعرفها أي مراهق مصدرها كتاب (عنف violence) لسلافوي جيجك و هو كتاب سهل القراءة نسبياً مقارنة بباقي كتاباته، و من المثير للسخرية أنه بالرغم من كل هذا و إنتقاد إسرائيل في مواضع عدة في الكتاب فإن جيجك هب لدعم إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر، صحيح أنه دعم غريب حيث أدان حماس دون قيد أو شرط إلا أنه في نفس المجلس عقد مقارنات بين ما أهداف حماس و أهداف حكومة أسرائيل المعلنة رسمياً تقول أنهما متماثلين. و بغض النظر عن الرأي في جيجك شخصياً فهذا درس متكرر في أن نفصل بين الكلام و بين قائله إذ أننا يمكن أن نتعلم ممن نخالفهم إما الرأي و إما الموقف الأخلاقي، و هو عكس ما يفعله معظم الناس الذين يتوقعون أن يكون صانع الحلوي شخصاً طيباً رقيقاً علي حد تعبير أحمد خالد توفيق رحمه الله.