الكوميديا الإلهية

الصواب و الخطأ في موضع التنفيذ و ليس فقط كقناعات

منذ سنين طويلة شاهدت فيلماً كارتونياً مأخوذ عن الكوميديا الإلهية لدانتي. تدور الكوميديا الإلهية حول رحلة دانتي إلي العالم الآخر، حيث يقدم نفسه كبطل الملحمة الشعرية المكونة من ثلاثة أجزاء بينما يقوم الشاعر الروماني فيرجيل بدور الدليل ثم تتبعه بياتريس حبيبة دانتي في القيام بدور الدليل في العالم الآخر.

الفيلم كان يركز علي جزء واحد فقط من الأجزاء الثلاثة للملحمة و هو الجحيم Inferno. تدور الملحمة في ثلاثة أجزاء تبدأ بالجحيم Inferno ثم المطهر purgatory ثم الجنة Pardise. هذه ليست الأسماء الإيطالية بل الأسماء الإنجليزية تسهيلاً علي من يحب أن يستزيد في القراءة، هذا هو الأسلوب الذي أتبعه أحمد خالد توفيق رحمه الله. Inferno كلمة إيطالية لكنها صارت أساسية في الغة الإنجليزية اليوم بسبب شهرة الملحمة في الوجدان الغربي كله و بالتالي دخلت الكلمة القواميس الإنجليزية كمرادف للجحيم. هذه ليست الكلمة الأولي ولا الأخيرة التي زرعتها المحلمة في الوجدان الغربي، مثلاً ال Limbo مفهوم كاثوليكي عن الحال الذي يكون عليه الأخيار الذين لم يؤمنوا بالمسيح فلا يدخلوا النار ولا الجنة. في رواية دانتي يمثل ال Limbo الدائرة الأولي من الجحيم، والتي تضم الأخيار الذيم لم يؤمنوا بالمسيح (مثل صلاح الدين الأيوبي و سقراط و أفلاطون) و الأطفال الصغار الذين ماتوا دون أن يتم تعميدهم، و هو مكان لا نعيم فيه ولا عذاب. بعد خلاف شديد بيني و بين مدير من مديريني تم تصعيده لمستوايات أعلي طلب مني أن أكتب له تقييم في أثناء فترة التقييمات الربع سنوية فكتبت له أنه يترك المشاريع في Limbo دون أن يدفعها للأمام أو يغلقها و يوفر الوقت و المجهود. لم يسألني عن معني Limbo و لم يستغرب اللفظ رغم أنه ليس كاثوليكي لأن الكلمة في اللغة الإنجليزية معروفة بمعني (لا جنة ولا نار).

يقوم الشاعر اليوناني فيرجيل بدور الدليل في الجحيم و المطهر ثم تقوم بياتريس بدور الدليل في الجنة.

الجحيم هو أشهر هذه الأجزاء الثلاثة و هذا هو السبب أن الفيلم الذي شاهدته كان يدور حول الجحيم فقط. في تخيل دانتي كان الجحيم مكوناً من تسع دوائر متحدة المركز، في كل دائرة يوجد الأشخاص الذين غلبت علي حياتهم خطيئة معينة أكثر من غيرها. بالتالي هناك دائرة للشهوة الجنسية، هناك دائرة للعنف، الخ. الدائرة الخارجية تضم أقل الخطايا سوءاً و كلما تحركت بإتجاه المركز تزيد الخطايا سوءاً حتي تصل للدائرة التي عند المركز، قاع الجحيم، التي تضم أسوأ الخطاة في العالم. ما زلت أتذكر أن ما لفت إنتباهي وقتها فكرة أن الدائرة الثانية مخصصة للشهوة الجنسية، تضم الزناة و من شابههم، بينما الدائرة الثالثة مخصصة للشراهة: شراهة الطعام و الشراب و إستهلاك الثروة و مختلف متاع الحياة. كيف يمكن لشراهة الطعام أن تكون أكثر سوءاً من الزنا؟ ببحث سريع وجدت أن أحد التفسيرات هو أن الزنا علاقة يشبع فيها المرء من شهوة و لكنه أيضاً في نفس الوقت يشبع شخص آخر معه، بينما الشراهة تتركز علي فكرة إشباع شهوتك الشخصية فقط بدون أن تشبع أي شخص آخر معك. كانت هذه نقطة مفصلية في فهمي للدور الذي تمثله الملحمة و ما أثار إنتباهي فيها و ظلت في ذهني حتي بدأت بعد أكثر من عشر سنوات في القراءة عنها بشيء من التفصيل.

للكوميديا الإلهية مكانة ساحقة في الأدب بالتالي هي تمثل الكثير و الكثير من الأشياء، ما سأقوله هنا هو إنطباعي الشخصي عنها و ما أثار إنتباهي و ليس ما أثار إنتباه الناس و الدارسين علي مر الزمان. لتأخذ فكرة عن الوزن الذي تمثله في الوجدان البشري و الأدبي فإن هناك آراء محترمة لبعض علماء اللغات تري أن الكوميديا الإلهية عامل أساسي في أن تصير اللغة الإيطالية ما هي عليه اليوم. دانتي لم يكن إيطالياً لأنه كان يعيش في العصور الوسطي، لم يكن هناك شيء يسمي إيطاليا أصلاً، بل كان مواطن من فلورنسا و ما كتبه كتبه بلغة فلورنسا، و بسبب الوزن الساحق للكوميديا الإلهية ساهمت في أن تجعل لغة فلورنسا هي اللغة السائدة في ما حولها من مدن و ساهمت في أن تكون اللغة التي نسميها (اللغة الإيطالية) اليوم شديدة الشبه و تحمل الكثير من لغة فلورنسا تحديداً أكثر من لغات المدن المحيطة بها التي كانت لها لغات و لهجات تختلف أو تتشابه بدرجات مختلفة.

علي الرغم من أن الفيلم الكارتوني كان مبسطاً و تعرض لشخصيات شديدة الشهرة في رحلة دانتي في الجحيم (مثل كليوباترا و صلاح الدين الأيوبي) إلا أن الكوميديا الإلهية شديدة الصعوبة و تحتاج لشرح مفصل لتفهمها و تفهم الشخصيات التي يقابلها دانتي في رحلته في العالم الآخر. السبب أن الكوميديا الإلهية عمل شخصي جداً، يضم الكثير من الشخصيات التي تأثر بها دانتي في حياته اليومية.بجانب كونه أديب من الوزن الثقيل كان دانتي سياسي من سياسيي فلورنسا و سفيراً و عضو في ما يوازي البرلمان بلغتنا الحالية، و تم نفيه من بلده و مات في المنفي. تضم الكوميديا الإلهية بجانب الشخصيات الشهيرة مثل صلاح الدين الأيوبي و بروتس قاتل يلويوس قيصر الكثير من الأشخاص الذين يمثلون حياته اليومية: بابوات، ملوك، سياسيين أوربيين معاصرين له، سياسيين فلورنسيين، أصدقاؤه، أهل أصدقاؤه، بياتريس حبيبته التي ماتت في سن أربع و عشرين سنة، أشخاص عاديين ممن صاروا مثار حديث المجتمع الفلورنسي بسبب حوادث خيانة أو قتل، الخ. بالتالي إن لم تكن خبيراً في تاريخ فلورنسا في العصور الوسطي فلا مجال لأن تفهم ما يقال إلا إن شرحه أحدهم لك، يشرح لك السياق السياسي و الإجتماعي و الشخصي لتعرف من هذا الشخص و ماذا كان يفعل و ما المواقف التي جمعت بينه و بين دانتي لتفهم لماذا يضعه دانتي في هذا المكان في الجنة أو هذا المكان في الجحيم و لتفهم الحوار الذي يدور بينهما حين يتقابلان في رحلة دانتي في العالم الآخر.

“لا توجد أي رمزية. العجوز هو عجوز. الفتي هو فتي. السمكة هي سمكة. كل أسماك القرش تستوي لا يوجد فيها من هو أفضل من الآخر و كل الرمزية التي يتكلم عنها الناس هي محض هراء”. كانت هذه هي كلمات إرنست همنجواي الشهيرة عن الرموز التي يراها الناس في روايته (العجوز و البحر)، و هي مثال قوي علي أحد وجهات النظر في النقاش الأدبي حول الرمز في الأدب و ما إن كان كذا يمثل كيت و كيت. ستيفن كينج له رأي مشابه حيث يري أن الرموز تجعل كل شخص يري ما يريد بمختلف الآراء و الألوان بغض النظر عن ما قصده الكاتب أصلاً. في هذا الوقت في أيطاليا كان يسود أسلوب أدبي في إستخدام الرموز يسمي Allegory حيث يمكن إعادة تفسير رواية سطحية بمفهوم أعمق مستتر و حيث كل شيء و كل حدث يرمز لشيء آخر. في الكوميديا الإلهة حاول البعض إضفاء هذه المعاني مثل القول أن بياتريس هي رمز للخير و الجمال إلخ. إلا أن الأمر لا يستحق، بياتريس هي بياتريس، هي حبيبته التي ماتت في سن الرابعة و العشرين من العمر، هي تمثل وزن شخصي في حياته يكفي كما هو و كونها دليله في الجنة لا يحتاج لأي رمزية ليحمل معني شديد العمق و التأثير. فرجيل هو فرجيل، بكل ما يمثله كشاعر شهير و له أثره في الفكر الغربي و أدب العصور الوسطي بما يكفي ليمثل وزن كبير لأديب من أدباء العصور الوسطي. الملحمة شخصية تماماً و في هذا هي كبيرة التأثير دون أن تحتاج لأي تفسيرات رمزية معقدة - برغم أنها تحتمل الكثير من التفسيرات الرمزية لمن يريد.

بالتالي وجدت كتاب (Reading Dante )ل Prue Shaw أستاذة الأدب الإيطالي في عدد من جامعات إنجلترا و الذي يقوم تحديداً بهذا الدور: شرح السياق الشخصي و السياسي و التاريخي الذي تدور فيه الملحمة.

يصف الكثير من الناس الكوميديا الإلهية بأنها رحلة الإنسان للتعرف علي الخطايا و أثرها في النفس البشرية و كذلك مختلف أعمال الخير. بالنسبة لي أنا أراها بشكل مختلف قليلاً. هذه ليست محاولة للفهم بل محاولة لجعل تصور الإنسان عن الصواب و الخطأ واقع ملموس. كل إنسان لديه مفهوم ما عن الصواب و الخطأ. أحياناً كثيرة يتعارض هذا المفهوم مع الأديان فيخبرك الدين بأن كذا أشد سوءاً من كذا بينما أنت لا تري هذا. كمسلم أنا مقتنع أن تحديد الصواب و الخطأ و أن كذا أفضل من كذا و كذا أسوأ من كذا شيء إختص الله سبحانه و تعالي به نفسه. بالمثل نفس الشيء بالنسبة للمسيحيين و أي ممن يقتنعون بأي مصدر غير بشري للتشريع. بالتالي علي الرغم من أن دانتي كان مسيحياً متديناً و ظهر هذا في مواقف لا تحصي في الكوميديا الإلهية إلا أن الملحمة لاقت الكثير من الهجاء بسبب هذه النقطة تحديداً من كثير من معاصريه المتدينين، و كان مألوفاً في كل من أمتدحوه أدبياً أن يبدأو المدح بمقدمة يقولون فيها أنهم يختلفون معه فيما قال من الجانب الديني ثم يمضون ليعددوا مآثر المحلمة من الناحية الأدبية.

رأيي أنه في الكوميديا الإلهية يحاول دانتي أن يضع مفاهيمه عن الصواب و الخطأ موضع التنفيذ حتي بشكل خيالي فيصف عذابات شاعرية معقدة لبابوات روما الذين أستغلوا الدين في تحقيق مآثرهم الشخصية و أهدافهم السياسية (لاحظ أن البابوات وقتها كانوا يقودون الجيوش و لهم وزن سياسي و عسكري و ليس مجرد وزن ديني)، و في نفس الوقت يري عذاب الملك الفرنسي الذي صفع البابا الذي وصف عذابه في المطهر منذ قليل لأنه تجرأ علي مقام البابوية و هو مقام له وزن ديني و يستمد بشكل ما من الله!

كل إنسان له تصورات عن الصواب و الخطأ و كل إنسان يتمني أن توضع تصوراته يوم القيامة موضع التنفيذ و كثيراً ما يتجرأ الناس ليجزموا بأن فلان في الجنة وعلان في الجحيم. الناس تحتاج لأن تتجاوز مرحلة الإيمان إلي مرحلة الحقيقة الواقعية و كثيراً ما تهتز الشعرة الفاصلة بين الإثنين و يذوب هذا الفاصل. هذا إحتياج شديد لدي الناس، شهوة من الشهوات الكثيرة التي يأتي الإسلام لينظمها بشدة، و هذه أحد الأشياء التي يغفل عنها الكثير من الناس. في الإسلام هناك فارق كبير بين أن تقول أن الكافر في النار و بين أن فلان في النار. الأولي حكم عام يتبعه أن يحاول المرء أن ينأي بنفسه عن الكفر و أفعاله بينما الثانية إختص الله سبحانه و تعالي بها نفسه و لم يعطها لأي من البشر. ولهذا يري معظم العلماء أن الرسول عليه الصلاة و السلام حين يخبر عن أن فلان في الجنة و علان في النار فإنه لا يفعل ذلك عن إستنتاج بل عن وحي، الله سبحانه و تعالي أخبره بهذا و ليس له ولا لأي شخص أن يقول أن فلان تحديداً في الجنة أو في النار مهما بدا الأمر واضحاً و صريحاً. الأمر لا يقف هنا بل إن هناك نصوص دينية عن أن من يفعل ذلك يلقي هو بنفسه في النار. بالتالي هذه واحدة من الشهوات العديدة التي يحتاج المرء أن يتركها مخافة الله تعالي، أن يفرق بين أمنيته أن يكون فلاناً في الجنة و علاناً في النار و بين أن هذا الحكم متروك لله وحده أختص به نفسه و لم يعطه أحد من الناس حتي الرسول عليه الصلاة و السلام و يسلم بهذا الأمر.

الأمر يشبه أن تعرف أن القتل العمد عقوبته الإعدام و بين أن تقوم بنفسك بإعدام قاتل أمسكه الناس. العقوبة في القانون نص عام، تحديد العقوبة علي شخص بعينه متروك للقاضي لأنه يتضمن الكثير من الفحص في ملابسات ما فعله و تفاصيله و سياقاته.

بالتالي مفهوم تماماً أن دانتي لاقي الكثير من الرفض لما فعله من تعيين الجزاءات الآخروية من نعيم و عقاب علي أشخاص بعينهم في تعارض لبعض تعاليم المسيحية مما أدي لحظر الكنيسة لهذه الملحمة. ، بالطبع بجانب هذا بجانب نقده للبابوات و وصف عذاباتهم في العالم الآخر جزاء علي ما أقترفوه في الدنيا.

بالتالي ما فعله دانتي ليس تعرف الإنسان علي الخير و الشر بل هو وضع تصور الإنسان عن الخير و الشر موضع الواقع و الحقيقة بدلاً من أن يتوقف عند مرحلة الإيمان و القناعات.

لكن يظل تصور دانتي للخير و الشر مثير للتأمل و التفكير. فكرة ترتيب الخطايا و أعمال الخير في درجات واضحة و محددة و فاصلة مع تعيين نقط التشابه بين بعضها بهذا الشكل القاطع مثير للتأمل و يجعلك تفكر في زاوية أخري للخير للشر تختلف عن زاويتك الشخصية. ما يساعد علي هذا أن الكلام عن أشخاص ليس لنا علاقة بهم من قريب أو بعيد ولا نشعر بصلة شخصية لهم، لو كلمك أحدهم عن أن فلاناً ممن تعرفه أنت اليوم و تري أفعاله و أثرها علي العالم من حولك في المكان الفلاني في الجنة أو النار و فوقه فلان و تحته علان فلابد أن تنفعل بدرجة ما و تتأثر، سيتوقف الموضوع عن أن يكون تأملاً فلسفياً، لكن في حالة دانتي تقريباً كل شخص يقابله في العالم الآخر يلقي بفكرة ما عن تصوره للخير و الشر من زاوية تختلف تماماً عن تصورك و تثير التأمل و التفكير. هناك حالات لا حصر لها لكن علي سبيل المثال فكرة أن قعر الحجيم يوجد فيه بروتس قاتل يوليوس قيصر. بالنسبة لدانتي تمثل الخيانة شيء أسوأ من الإلحاد شخصياً، هذه نقطة مثيرة للتأمل أن يؤمن بها كاثوليكي متدين و تدفع المرء للتسائل عن (لماذا)، و من وجهة نظر دانتي فبروتس قتل مربيه بالتالي هو أسوأ الناس طراً، شخص قتل من أمتدت إليه يده بالإحسان. هذا منظور ممكن لبروتس لكن ماذا عن فكرة أن قيصر كان شراً للمجتمع؟ ماذا عن فكرة أنه جاء ليهدم كل ما بنته روما من مباديء و قوانين ديمقراطية ليجعلها إمبراطورية مرة أخري؟ لو تجاوزنا عن أن بروتس كان إبن عشيقة قيصر، و لم يكن بروتس إبنه مثلاً ولا حتي إبن زوجته علي أساس أن العلاقات الجنسية في روما القديمة كانت مفتوحة بشكل غريب، يمكنك بشكل ما أن تنظر للأمر علي أن بروتس تجاوز حاجز نفسي كبير بقتل شخص عزيز عليه من أجل المبدأ العام، المصلحة العامة و بسبب فكرة أن قيصر صار خطراً علي كل ما يجعل من روما روما. هل خطرت هذه الأفكار في عقل دانتي؟ هل ناقشها مع بروتس في رحلته في الجحيم؟ هل ينظر دانتي أصلا لقيصر علي أنه خطر لأنه هدم قواعد الديمقراطية أم أنه لا بيالي علي أساس أنها كانت ديمقراطية ينخرها الكثير من الفساد و البحث عن المصالح الشخصية بين سياسيي روما؟ نفس هذه الأسئلة ممكن أن تخطر ببالك أصلاً عندما تقرأ عن الدائرة الأولي Limbo حيث يولويس قيصر هو أحد المشاهير في هذه الدائرة، بالتالي دانتي يري أنه من الاخيار ولا ينقصه إلا فقط الإيمان بالمسيح!

الأمثلة لا تعد ولا تحصي و ربما أفردت لها مقالاً أو مقالات منفصلة يوماً ما، لكن في سياق هذا المقال أتمني أن تكون الفكرة العامة وصلت للقاريء.