عن الحب و الأسرة نتحدث

ملحوظة هامة: في هذا المقال سأتعرض لفكرة قصة (المسيرة الطويلة The long walk) لستيفن كينج. من ينوي أن يقرأ القصة و لا يريد من يحرق أحداثها فلا يكمل قراءة هذا المقال.

تدور قصة (المسيرة الطويلة The Long Walk ) في المستقبل حيث يظهر نوع جديد من العاب الموت. اللعبة فكرتها أن يقوم مائة من الشباب بالسير بلا إنقطاع في الطرق الأمريكية السريعة التي يتم إخلائها من السيارات، و كلما إنتهوا من طريق إنتقلوا للطريق الذي يتصل به. الجيش يشرف علي اللعبة، حيث تسير عربات مدرعة بجوار اللاعبين أثناء سيرهم. العربات مجهزة بأجهزة اليكترونية تقيس سرعة سير الاعبين. من تقل سرعته عن أربعة كيلومترات في الساعة يتلقي أنذاراً، ثم إنذار آخر بعد دقائق إن لم تزدسرعته، و هكذا تتراكم الإنذارات. لكي يسقط عنك إنذار عليك أن تستمر في السير بسرعة لا تقل عن أربعة كيلومترات في الساعة لمدة ساعتين كاملتين. من تتراكم عليه أربعة إنذارات يتم قتله فوراً بإطلاق النار عليه من قبل الجنود الذين يركبون المدرعة.

السير يستمر من البداية إلي النهاية بدون دقيقة واحدة من الراحة. تنتهي اللعبة حين يتبقي لاعب واحد فقط علي قيد الحياة، و بالتالي فإن اللعبة تستمر لعدة أيام يتساقط خلالها اللاعبون قتلي واحد بعد الآخر بعد أن يغلبهم التعب أو البرد أو الأمراض أو آلآم القدمين و الساقين.

الشباب المائة يمثل كل منهم مدينة من المدن الأمريكية، و علي جانبي الطريق يصطف المشجعون لتشجيع لاعب مدينتهم، و بالطبع فإن اللعبة التي تقام مرة كل عام تبث علي شاشات التلفاز.

السؤال البديهي هنا هو ما الذي يدفع المرء للمخاطرة بحياته في لعبة كهذه؟ الدافع لهذه المخاطرة أن الفائز في هذه اللعبة يأخذ كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة. من يفوز في المسابقة تعطيه الدولة كل ما يطلبه مدي الحياة. إن طلب قصراً أعطي له، إن طلب سيارة أعطيت له، و هكذا.

حين قرأت هذه القصة لأول مرة منذ ما يقرب من شهرين شعرت بأنها مملة بقدر كبير. لا يوجد تغيير في الأحداث طوال القصة. من بداية القصة و حتي نهايتها يشاهد القاريء مائة شاب يقتل واحد منهم كل بضعة صفحات، مع بعض التركيز علي شاب بعينه هو (راي جاراتي) بطل القصة. و لكن بالأمس أخذت أفكر في هذه القصة و بدأت أتذكر بعض الأشياء الجديرة بالذكر.

في أثناء السير و كلما قل عدد الاعبين و زادت إحتمالية فوز (راي جاراتي) يفكر راي في أمه و فتاته بدلاً من أن يفكر في الجائزة. تدريجياً يصير أقصي ما يتمناه أن يري وجه أمه أو فتاته وسط المشجعين و أن يلمس يد أي منهما لثانية واحدة (لاحظ أنه لا يستطيع التوقف و إلا تم قتله). في حوار رائع يسأل أحد الاعبين راي عما سيطلبه إن فاز في السباق فيخبره راي بأنه لا يعرف ما الذي سيطلبه. هو لم يعد يري أي فائدة للمال الآن و صار جل ما يتمناه في الحياة شيء كان بالفعل بين يديه منذ بضعة أيام : أمه و فتاته.

الفكرة أن في الحياة أشياء يتضائل أمامها المال و القصور و السيارات الفارهة علي الرغم من أنها الحصول عليها أسهل نسبياً من الحصول علي الثروة الفاحشة، هذه الأشياء هي الأسرة و الحب و المشاعر التي يشعر بها المرء تجاه أهله و أسرته. علي الرغم من أن ستيفن كينج يكره المبالغة في إستخدام الرمز في كتاباته لأنه عادة ما يجعل القصة غير مفهومة و عرضة للتأويلات، إلا أني أشعر أن إسم القصة يحمل رمزاً للحياة عموماً، التي هي مسيرة طويلة يسعي فيها المرء وراء أشياء قليلة القيمة و يترك ما هو أهم و لا يكتشف الحقيقة إلا بعد فوات الأوان.

السينما هي أحد العوامل التي رسخت في وجدان الناس فكرة أن أهم ما في الحياة هو المال. عادة ما يتم تصوير الشخص المنعم علي أنه يعيش في قصر فاخر و يقود سيارة فارهة أو سيارة رياضية غالية و عادة ما يتم إهمال نقط أخري مثل الحياة الأسرية السعيدة كنعمة لا تماثلها نعمة في الحياة.

في تفسير الآية الكريمة (ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة) ذكر العلماء أن حسنة الدنيا هي الزوجة الصالحة (أو الزوج الصالح) و أن حسنة الآخرة هي الجنة، و قد لاحظ بعضهم أن النعمة الوحيدة من نعم الدنيا التي ذكرت بجوار الجنة في نفس الآية هي الزوجة (أو الزوج) و ليس المال أو الجاه أو أي من نعم الدنيا الأخري.

ذكرت الجنة في القرآن مقترنة بالأسرة في أماكن أخري، أحدها علي سبيل المثلا في سورة الرعد (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)، و هي دلالة علي مدي أهمية الأسرة و قيمتها كنعمة من أجل نعم الحياة الدنيا.

علي الرغم من أهمية نعمة الأسرة إلا أن هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة أو النقاط التي لا ينتبه لها الكثيرون مما تعيق بناء الأسرة السعيدة في مجتمعاتنا.

أول هذه المفاهيم أن الحب رزق من الله سبحانه و تعالي مثله مثل المال. الله سبحانه و تعالي في كتابه الكريم قال (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)، و بالتالي فإن الناس تتفاوت في مدي ما تناله من الحب و الحياة الأسرية المستقرة، و لكن النقطة الهامة أن الرزق يلزمه السعي.

من النقاط البديهية أن المرء عليه أن يسعي للمال ثم يرضي بما قسمه الله له. لا أحد ينام في بيته في إنتظار أن تهبط عليه ثروة من السماء بإستثناء محظوظ في قصص مجلة ميكي.

فكرة إنتظار الثروة التي تهبط من السماء لا تختلف كثيراً عن الحب من أول نظرة، و الذي يسميه العلماء (الحب الهوليودي). قد يوجد الميل أو الإرتياح من أول نظرة أما الحب العميق فإنه لا يأتي إلا بالإحتكاك و العطاء المتبادل و بالطبع توفيق الله سبحانه و تعالي. المرء عليه أن يسعي لأن يكتسب حب زوجته (أو زوجه). عليه أن يسعي لأن يفهم نفسية و أسلوب تفكير الطرف الآخر، عليه أن يتحمل المشاق و أن تكون لديه النية الحقيقة لأن يعفو و يتجاوز عن الهفوات و يسعي لحل المشكلات و الصبر عليها. الله سبحانه و تعالي يقول ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا). بعد أن يسعي المرء فإن عليه أن يطلب التوفيق من الله ثم يرضي في النهاية بما قسمه الله له.

للأسف يهمل الناس فكرة السعي و التحمل و فكرة أن الزواج هو مسئولية نفسية قبل أن تكون مسئولية مادية. مادام الرجل ينفق في بيته فإنه قد أدي ما عليه، و مادامت المرأة تراعي بيتها من طهي و تنظيف و خلافه فإنها قد أدت ما عليها، و يصير الحديث عن التفهم و الحديث و الإستماع إلي الطرف الآخر و إحتوائه نفسياً نوع من الترف الفكري مثله مثل الفلسفة الوجودية، أو نوع من الخيال العلمي مثل الغزاة خضر اللون القادمين من المريخ.

فكرة السعي نفسها تنطبق علي تربية الأبناء. مازلت أتذكر كتاباً في البرمجة قرأته منذ ما يزيد عن عامين ذكر فيه الكاتب - و كان أمريكياً - بشكل عارض أنه ذهب مع زوجته إلي فصول لتعليم الرعاية الطبية الأولية للأطفال حديثي الولادة حين علموا أنها حامل. لا شيء هنا يترك للظروف ، و هو ما يجذبنا إلي ما ذكره د. جلال أمين من أن الغرب لديهم ما يمكن أن يسمي بعبادة الأطفال. بالنسبة لهم فإنهم يظنون أن المرء بوسعه أن يصنع مستقبل الطفل بإختيار أسلوب التنشئة و التربية و دراسته و حسن تطبيقه، و لهذا تجد أن لديهم أشخاص مثل بنامين سبوك لا يكتبون إلا عن التربية و علي الرغم من هذا فإن شهرتهم ساحقة.

علي الجانب الآخر نجد أن العرب لديهم ترك الأمور لتسير (بالبركة) و يمكنك عزيزي القاريء أن تسأل من تعرفهم من الآباء و الأمهات عن الكتب التي قرأوها في تربية الأبناء و لن تجد أن المجموع يزيد عن خمسة كتب في أحسن الأحوال – بالنسبة لي فإن مجموع الكتب التي قرأها معارفي و أقاربي في موضوع التربية هو صفر.

كلا الفكرتين مبالغة في الشطط. هناك أشياء مثل الصحة و ظروف المجتمع و الملكات الشخصية لا يمكن للمرء أن يتحكم فيها بأسلوب التربية و تدخل في قضاء الله، علي الجانب الآخر فإن ترك الأمور لتسير كيفما إتفق يخل بفكرة السعي التي هي من أسس الحياة الدنيا.

ثاني المفاهيم الخاطئة بخصوص موضوع الحب و الزواج و الأسرة هو النظرة لمسئوليات كل طرف.

علي سبيل المثال المجتمع عادة لا ينتظر من المرأة أن تكون صاحبة فكر أو رأي أو ثقافة. الكثير من أصدقائي يرفض فكرة المرأة الذكية ذات الرأي حين أحدثه عنها لأنه لا يريد من تناقشه و تجادله. عادة ما يكون ردي أن المرء إن أراد كائناً يتسلط عليه فإنه يمكنه أن يبحث عن عنزة ليسحبها وراءه بحبل و سيجد أن العنزة مطيعة و لا تعصي له أمراً. أعتقد أن بحث المرء عن من هو أقل منه ليكون شريك حياة هو نوع من قلة الثقة بالنفس.

الفكرة نفسها موجودة بشكل آخر لدي النساء، إذ عادة ما يتم تقييم المرأة بناء علي مستوي جمالها فقط. كلما ذهبت إلي أحد الأفراح أو سمعنا بزواج شخص ما، عادة ما يكون الحديث وسط نساء الأسرة عن مدي جمال العروس، و لماذا تزوج العريس هذه الفتاة مع أن في الأسرة من تفوقها جمالاً، إلي آخر هذا الكلام الذي يستبب في إرتفاع ضغط دمي. لا أحد يتحدث عن العقلية أو النفسية الودودة أو التدين (ما دامت الفتاة ترتدي حجاباً فهي متدينة) أو توافق الشخصيات أو ملكة الأمومة - و هي شيء قد يظهر في الفتاة من قبل أن ترزق بأبناء- فقط الحديث يدور عن الجمال ثم الجمال و لا شيء غير الجمال.

هذه النظرة لدي المجتمع تسببت بالتدريج في أن تتحول الفتاة ذات العقلية و الرأي الي شيء أشبه بالعنقاء، غير موجود ولا يبحث عنه أحد. الفتاة تنشأ علي أن هناك أموراً أهم من العقلية و بالتالي لا تبحث عن ما له علاقة بعقليتها، و الفتي ينشأ علي أنه لا داعي للفتاة ذات العقلية فلا يبحث عنها و لا تلفت إنتباهه إن إحتك بها بالمصادفة.

الغريب أن العقلية الذكية أدعي إلي التوافق و نمو الحب بين الطرفين. الذكاء ليس معناه أن يقف الطرفين لبعضهم البعض كالأنداد. الذكاء الحقيقي المقترن بالحب و الود أدعي لأن يتفهم كل شخص الطرف الآخر و يحتويه و يدفع الزوجة إلي طاعة زوجها حين تختلف معه في الرأي.

ذكرت من قبل في أحد المقالات أن علماء التنمية البشرية توصلوا إلي أن أسلوب تكوين الآراء و الخبرات في العقل البشري محدود إلي درجة كبيرة، و بالتالي فإن وجود زوجة ذات عقلية و رأي يعين الرجل علي حسن تقييم الأمور و روئيتها من وجهة نظر أخري غير وجهة نظره المحدودة بحكم كونه بشرياً. حتي علي الجانب الديني، فإن وجود زوجة محبة ذكية قد تعين الرجل علي نفسه بالحسني، تعينه علي طاعة الله و القرب منه بل و تعينه علي تحقيق أهدافه في الحياة.

في كتابه الرائع (عن الكتابة On Writing) حكي ستيفن كينج عن زوجته تابيثا التي يعتبرها أفضل النقاد الأدبيين لكتاباته و أول من يعرض عليها كتبه قبل نشرها. حين تحدث ستيفن كينج عن عوامل النجاح لأي كاتب ذكر عاملين رئيسيين، احدهما الحياة الأسرية المستقرة، و التي تتحقق بالإقتران بزوجة مستقلة الشخصية (independent).

في هذا السياق ذكر كينج إدمانه للخمر و الكوكايين و كيف وقفت زوجته أمامه بمزيج من الحزم و الحب لتخرجه من براثن الإدمان و التي يقول كينج أنه لم يكن ليخرج منها بدونها. مرة أخري أقولها، الزوجة المحبة الذكية تستطيع أن تعين زوجها علي تحقيق أهدافه و تصبح عوناً له و مأوي حين يحتاجها بدلاً من أن تقف لتشاهده أمام آماله و محنه و مشكلاته كالمتفرج الأبله الذي يشاهد مسلسل الساعة السابعة.

بالنسبة للرجل فإن نظرات قاصرة تضخم من حقوقه و تهمل واجباته عادة ما تكون سبباً في ضياع الحب و الود بين الأزواج. عادة ما يهتم الرجل بكل ما يؤكد سيادته في بيته من نصوص دينية و يهمل الحديث القائل (سيد القوم خادمهم).

أيضاً يسيء الرجال فهم الآية الكريمة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) و يظنون أنها تفضيل للرجل علي المرأة بينما هي تكليف، إذ أن كلمة قوام معناها من يتحمل الأمور الثقيلة الشاقة. علي سبيل المثال، في العصر المملوكي كان القائم بالأمن هو الشخص الذي يشبه وزير الداخلية اليوم، بمعني أنه من يتحمل مسئولية الأمن.

إن نظرنا للأمر نظرة كلية فسنجد أن سيادة الرجل في أسرته سببها تحمله الصعاب المادية و النفسية عن أهله و رعايته لهم و حنوه عليهم و ليست حقاً إلهياً مثل الحق الذي إدعاه الملوك في العصور الوسطي.

عادة ما ينتبه الرجال في سن الأربعين أو الخمسين بعد تحقيق النجاح المادي و الإجتماعي إلي أنهم في أثناء سعيهم إلي هذا النجاح قد فقدوا ما هو أهم، و صار الرجل يجد صعوبة في بدء حديث مع زوجته أو لا يعرف من هم أصدقاء أبنه، و غالباً ما يكون الوقت قد فات لتدارك ما فقده. أتمني أن ننتبه للموضوع في البداية لان فكرة (اللي إنكسر يتصلح) لا تنطبق علي كثير من أمور الحياة للأسف.

و في النهاية إن أعجبك المقال عزيزي القاريء فأدع الله أن يرزقني و يرزقك بالحب و الحياة الأسرية السعيدة :) .