هندسة عين شمس و ملخص التاريخ - 1

يحكي أن أحد الملوك إستدعي وزيره و طلب منه أن يكتب له التاريخ كله ليقرأه و يستفيد منه، فغاب الوزير عشر سنوات و عاد بعدد ضخم من المجلدات تحمله البغال، فقال الملك :“لا وقت لدي لقراءة كل هذا، قم بتلخيصه”.

غاب الوزير بضع سنوات أخري و عاد بخمسة مجلدات فقط، فقال الملك: " لا وقت لدي لقراءة خمسة مجلدات، قم بإختصارهم مرة أخري"، فغاب الوزير بضع سنوات و عاد بمجلد واحد فقط ليجد الملك علي فراشه يعاني سكرات الموت. قال الملك : “يا وزير لا وقت لدي ولا قوة لأقرأ هذا المجلد فإختصره لي.

قال الوزير: “يا مولاي، ولد الناس فعاشوا فعانوا فماتوا”. فإبتسم الملك و مات مستريحاً.

لمن لا يعرف، أنا خريج كلية الهندسة (الهلوسة في أقوال أخري) جامعة عين شمس قسم الحاسبات و النظم. ما سأحاول أن أفعله هو أن ألخص فترة دراستي في هندسة عين شمس كما لخص الوزير التاريخ، و لكني سألخصه في مقال من جزئين بدلاً من أن ألخصه في عبارة واحدة. لماذا فعلت ما فعلت

في أثناء الدراسة الثانوية كنت قد بدأت الإهتمام بالكمبيوتر. لم أكن قد بدأت في تعلم البرمجة و لكن الكمبيوتر و خصوصاً ألعاب الكمبيوتر جذبتني بشدة. بعد ظهور النتيجة ترددت بين دخول كلية الهندسة و دخول كلية الحاسبات و المعلومات. كنت أعرف أنه لا توجد كلية تقوم بتدريس الحاسبات في مصر بشكل جيد سواء كانت كلية الهندسة أو الحاسبات و المعلومات لذا قررت أن أدخل كلية الهندسة و أن أدخل قسم هندسة الإتصالات. كنت أهدف أن أتخرج كشخص يجيد ما يفعله و ليس أحمق يحمل شهادة كالحمار الذي يحمل أسفاراً لذا إن لم أستطع أن أتعلم الحاسبات كما ينبغي إذن فلأدرس هندسة الإتصالات.

الشيء الوحيد الذي ندمت عليه في قصة دراستي في الكلية هو أني لم أصل صلاة الإستخارة قبل أن أدخل كلية الهندسة. لو كنت صليت صلاة الإستخارة لما ندمت علي دخولها و لما فكرت أحياناً أنها أضاعت الكثير من وقتي و مجهودي فيما لا يفيد.

في السنة الإعدادية ذهلت حين وجدت أن أغلب المواد لا أهمية لها. كنت أسأل أقاربي أو أصدقائي الأكبر مني عن ما إستفادوه من مواد مثل الهندسة الوصفية أو الكيمياء في دراستهم بعد السنة الإعدادية فأجد الرد المكرر هو أنها مواد لا فائدة لها. هناك مواد أخري قد تكون مفيدة لك إن دخلت قسماً بعينه، مثل هندسة الإنتاج التي قد تفيد طلبة قسم ميكانيكا و لكنها لا فائدة لها بالنسبة لطلبة قسم الإتصالات مثلاً.

النقطة الأخري التي أثارت ذهولي هو أن هناك إتجاهاً عاماً لدي الأساتذة للفخر بأن هندسة عين شمس كلية صعبة و ليست مثل كليات الجامعات الأخري. كنت أجد أن مصدر الصعوبة هو الكثير من التعنت في التدريس و التصحيح و المبالغة في حجم المواد و الحشو، دعك بالطبع من أساليب التدريس الغبية التي سأفرد لها جزءاً كبيراً في هذه المقالات. كلما سمعت أستاذاً يفخر بهندسة عين شمس و أنها كلية صعبة لأنها علمياً ثقيلة تذكرت كلمة أينشتين عن الأحمق الذكي الذي يستطيع أن يجعل الأمور كلها صعبة و معقدة بينما الأمر يحتاج للمسة عبقرية لكي تصير الأمور سهلة مبسطة.

أيضاً لفت نظري أوراق الدروس التي تعتبر المفتاح الأساسي للنجاح و الإستذكار بعكس الفكرة التي كانت لدي أن الجامعة هي المكان الذي يذاكر فيه الطالب من أي مرجع المهم أن يأتي بالمعلومة.

أحد أقاربي يكبرني بأربع سنوات، كان هو في السنة النهائية عندما كنت أنا في السنة الإعدادية. ذات مرة قابلته في الكلية فقال لي دعك من شراء المراجع و الكتب، عليك بورق الدروس التي يتركها المعيد في المكتبة و عليك بالحضور لتعرف كيفية تفكير أستاذ المادة و لكن لا تقرأ من المراجع و الكتب الي آخر هذه الأشياء.جدير بالذكر أنه كان أول الدفعة و هو الآن معيد بالكلية.

عامة لا توجد في السنة الإعدادية الكثير من المراجع، بل هي كتب لا قيمة لها من الناحية العلمية يقوم الأساتذة بتأليفها و بيعها علي سبيل أكل العيش أو السبوبة و بالطبع لابد من أن تكون التمارين المطلوب تسليمها من داخل الكتاب لكي يجبر الطالب علي شراء الكتب.

هناك نقطة أخري أدهشتني هي أنه لا يوجد منهج محدد. السياسة العامة هي أن يقوم الأستاذ بالتدريس إلي أن تنتهي السنة و يلغي ما تبقي من المنهج. هذا له معني من إثنين، إما أن الطالب سيتخرج و هو ناقص علمياً و إما أن المادة من الأساس لا أهمية لها.

من هنا أدركت أني لن أخرج من هذه الكلية مؤهل علمياً أيا ما كان القسم الذي سألتحق به. في هذه الفترة بدأت أفكر في دراسة برمجة الألعاب و بدأت في هذا الطريق في أثناء إمتحانات آخر العام للسنة الإعدادية. هناك شيء إكتشفته في هذه الكلية هو أن أيام الإمتحانات هي الأيام التي يبدأ فيها المرء مشاريع جديدة قد تغير من إتجاه حياته أو يكتشف كتباً رائعة أو يبدأ في تعلم شيئاً مثيراً جذاباً، المهم أن كل الطرق و الظروف في أيام الإمتحانات تؤدي إلي أي شيء إلا المذاكرة! لا أعرف إن كانت هذه ظاهرة عامة أم أنها شيء خاص بي وحدي.

لم أكن أجيد البرمجة، و العاب الكمبيوتر هي أحد أعقد فروع البرمجة و تحتاج بالإضافة الي معرفة قوية بلغة البرمجة إلي خلفية رياضية و فيزيائية كبيرة. في أثناء بداية تعلمي برمجة الألعاب تعرفت علي محمد حجاج الذي صار فيما بعد أحد أصدقائي المقربين. كان محمد زميلي في السكشن و علي الرغم من هذا لم تكن لي علاقة به طوال العام لأني إنطوائي بدرجة كبيرة. إكتشفت أن محمد له باع في برمجة الألعاب منذ عدة سنوات - حاز فيما بعد علي مناصب شرفية في برمجة الألعاب من شركة مايكروسوفت لمستواه العلمي و صار بعدها مبرمجاً في مايكروسوفت- و قد ساعدني بشدة في أن أدخل هذا المجال الصعب. كلما فكرت في الموضوع أجد أنه ليس من المصادفة بل هو توفيق من الله لا شك فيه لولاه ربما كنت تعثرت و تخليت عن الفكرة برمتها و لتغيرت حياتي، و ربما كانت معرفتي بمحمد حجاج هي الميزة الوحيدة لدخولي كلية الهندسة.

فيما بعد أكملت في مجال برمجة الألعاب و دخلت بعدها مجالات أخري من البرمجة و أهملت الكلية، صار هدفي فقط أن أنجح بغض النظر عن التقدير و الدرجات بأقل خسائر ممكنة، هذه الخسائر هي الوقت و المجهود. لم يكن في بالي أني سأعمل مبرمجاً، بل كنت أفكر فيها من منطلق من يترك المذاكرة ليجلس مع أصدقائه علي المقهي. ما دمت متأكداً أني لن أتعلم من الكلية فلأنزل للجلوس علي المقهي، و كان المقهي الخاص بي هو أمام الكمبيوتر لأتعلم البرمجة.

بدأت في العمل في السنة الثانية و صرت مديراً تقنياً في نهاية السنة الثالثة. عملت مع شركات أمريكية، كندية و بريطانية و ظهرت أمامي فرص للسفر للخارج ملتحقاً بعدد من الشركات العملاقة مثل مايكروسوفت و HP. إشتركت في أبحاث علمية و مراجعة مراجع علمية و أبحاث لعدد من المجلات العلمية الشهيرة في مجال البرمجيات.كما يقول د. أحمد خالد توفيق فإن القاريء لن يحب أن يتحدث أحدهم ليخبره أنه لا شخص لا بأس به، و لكني أحاول أن ألخص الخلفية العلمية التي علي أساسها سأبني نقدي للكلية و منهج التدريس و أسلوب تفكير الطلبة.

التخصص

لنتتبع معاً المراحل التي يمر بها طالب كلية الهندسة حتي يتخرج من قسم الحاسبات و النظم. أول سنة في كلية الهندسة هي السنة الإعدادية و فيها يدرس الطالب الكثير من المواد التي لا فائدة لها (بإعتراف من يقومون بتدريسها) أو المواد التي لا فائدة منها إلا بالنسبة لقسم معين. بعدها يتم التخصص في شعبة الهندسة الكهربائية، و التي تعني أن الطالب سيتخرج كمهندس حاسبات أو إتصالات أو قوي. لمدة سنتين يدرس الطالب مواد تتعلق بالأقسام الثلاثة بالإضافة الي بعض المواد التي لا فائدة منها و التي يقوم بتدريسها أساتذة من أقسام ميكانيا و مدني. علي سبيل المثال أنا درست نظم الحرارة و الضغط و بالبخار، نظم الري و بناء السدود، نظم نقل الكهرباء، الخ. لا تسألني عن فائدة هذه الأشياء بالنسبة لمهندس كمبيوتر فأنا لا أعرف حتي اليوم، و لا أستبعد أن يأتي اليوم الذي تقوم الكلية بتدريس تشريح الضفادع إن رأي أحد الأشاوس أن يضيف التشريح إلي لائحة المواد.

في السنة الثالثة و الرابعة يتخصص الطالب كمهندس حاسبات و نظم، و هي كلمة واسعة يدرس الطالب تحتها البرمجة و الشبكات و التحكم و تأمين المعلومات و الهاردوير. كل فرع من هذه الأفرع يفرد له قسم مستقل أو كلية مستقلة في الجامعات الغربية و لكن لدينا يدرسها المرء علي مدي سنتين. حاول أن تتخيل مدي المعلومات التي يكتسبها الطالب من وسط كل هذا الهراء و تكون مفيدة له في عمله فعلياً، هذا إن إفترضنا أن تدريس هذه المواد يتم بما يرضي الله.

قال أحد زملائي: “في السنة الإعدادية لا يتعلم المرء شيئاً مفيداً و يصبر حتي يدخل قسم الهندسة الكهربائية كنوع من التخصص، عندها سيبدأ التعلم الفعلي. في قسم الهندسة الكهربائية لا يجد المرء سوي المزيد من الهراء فيظل عامين في قسم الهندسة الكهربائية إنتظاراً لأن يدخل قسم الحاسبات و عندها سيبدأ في التعلم بجدية. في السنة الثالثة حين يدخل قسم الحاسبات و النظم يكتشف أنه لا فائدة من هذه الكلية و لكنه يكتشف هذه الحقيقة في وقت متأخر للغاية”.

المشكلة نفسها موجودة في بعض الأقسام الأخري. عملت لفترة مع زميل خريج قسم إتصالات بكلية الهندسة جامعة القاهرة. أخبرني هذا الزميل أن أحد أساتذته قال لهم أن ما يدرسه المرء في هندسة الإتصالات بجامعة القاهرة يتم فصله إلي سبع أقسام مستقلة في كليات الدول الغربية.

الأستاذ الجامعي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

هناك نقطة تثار كلما إنتقد أحدهم أسلوب التدريس الجامعي هي أن الأستاذ الجامعي أكثر خبرة و معرفة و بالتالي هو الأقدر علي وضع المنهج. في أحد إجتماعات مجلس القسم حين إعترض بعض الطلبة علي أسلوب تدريس مادة معينة كان رد رئيس القسم علي الطالب الذي قدم الإعتراض هو “من أنت حتي تعترض”. الأمر قد يكون مقبولاً إن كان من جانب أستاذ جامعي بذل الكثير من الجهد ليصل لهذا المنصب الإجتماعي - الأستاذ الجامعي في مصر ليس منصب علمي - و لا يقبل أن يسلبه أحدهم مجده و فشخرته – لا أجد لفظاً مماثلاً في العربية الفصحي للأسف – و لكن المشكلة أن بعض الطلبة مقتنعين بهذا. حين أناقش أحدهم عن أسلوب تدريس أو محتوي مادة ما لابد بأن أجد من يرد علي بأن الأستاذ أعلم منا بالمادة لأنه كبير و نحن صغار!

في الغرب حين تقدم رأياً علميا لا يسألك أحدهم من أنت بل يناقش معك ما تقول بحيادية تامة. في مقدمة أحد المراجع التي قام أستاذ في جامعة MIT بتأليفه وجدت صفحتين كاملتين ممتلئتين بأسماء الطلبة الذين قدموا إقتراحاتهم للأستاذ من أجل تحسين محتوي الطبعة الثانية من الكتاب بناء علي نقدهم و ملاحظاتهم علي الطبعة الأولي.

في الغرب هناك ما يسمي ب Proof Reader أو Reviewer للكتب و الأبحاث و هو شخص أو أشخاص ممن يستهدفهم المرجع العملي أو المقال. إن كان المقال مكتوباً للأطباء يكون هذا الشخص طبيباً و إن كان للمهندسين يكون هذا الشخص مهندساً و هكذا. يقوم هذا الشخص بقراءة المقال أو الكتاب و يقدم ملاحظاته عليه، سواء الأخطاء العلمية أو أخطاء في أسلوب التدريس و تقديم الفكرة …الخ. لا أحد يسألك من أنت بل يفكر فقط فيما تقدمه من نقد للكتاب أو المقال. عادة ما يطلب مؤلف الكتاب أو البحث Proof Reader ليتطوع بمراجعة الكتاب أو البحث لأنه يهتم بالمحتوي العملي نفسه و ليس بأنه الأستاذ العظيم.

في إحدي المرات كنت واحد من أربع متطوعين لمراجعة أحد الأبحاث التي كانت مقدمة لإحدي أكبر مجلات البرمجيات الأمريكية التي تصدرها هيئة ال IEEE الشهيرة. الورقة العملية قام بإعدادها إثنان من الأساتذة أحدهما أمريكي و الآخر هولندي. كنت الوحيد من المراجعين الذي كان يري عدم نشر البحث، و قد أخذت هيئة تحرير المجلة برأيي و إعتذرت للأساتذة الذين أعدوا البحث. أنا لا أحوز نصف المنصب العلمي أو الدرجات التي يحملها من قاما بإعداد هذا البحث و لكن قراري كان مشفوعاً بمبررات علمية مقنعة لهيئة تحرير المجلة و بالتالي تم الأخذ بها.

أسلوب التفكير الذي يخرج به الطالب نفسه من دائرة الفهم و يتركها للأستاذ مثل الكهنة في القبائل البدائية الذين لهم وحدهم الإتصال بالآلهة و الأرواح يحد من قدرة الطالب نفسه و تترك قدرته علي النقد و مستوي تفكيره العلمي كما هو، و يظل يقبل ما يلقي اليه دون تمييز مادام يأتي من الكاهن الأعظم.

هذا يقودنا لنقطة أخري هي ما يتعلمه الطالب من الأستاذ الجامعي. عادة الطالب لا يعرف شيئاً عن المادة العلمية، يدخل المحاضرة ليجد شخصاً يخبره بمعلومات هو لم يسمع بها من قبل و بالتالي فهو يشعر أن الكلية مفيدة و أنه الأستاذ الجامعي هو شخص ذو علم. أحد زملائي حين سمعني أنتقد المناهج العملية في هندسة عين شمس رد بأن المناهج في هندسة عين شمس ممتازة فسألته و ماذا رأيت بخلاف مناهج هندسة عين شمس؟ هل قرأت كتباً أو سمعت شرحاً آخر سوي ذلك الموجود في الكلية فبهت و لم يرد. هو لم ير في حياته سوي هندسة عين شمس فلا يعرف بالظبط ما المفترض أن تكون عليه الأمور، لا يعرف ما يجب عليه أن يدرسه و ما مقدار ما درسه بالفعل من هذا الواجب دراسته، دعك بالطبع من أني أقدم له فكرة مرعبة يحاول أن يرفضها هي أنه أضاع من عمره خمس سنوات مرهقة في ما لا يفيد و هو ما أري أنه حقيقة.

الدعاية هي أحد العوامل التي تعمي الطالب عن إنحدار مستوي الكلية. لهندسة عين شمس سمعة ممتازة في المجتمع المصري - و إن كانت بدأت تفقد هذه السمعة لدي الكثير من الشركات - و عند دخول الكلية في السنة الإعدادية يتلقف الطلبة عدد من الأساتذة الذين يقضون نصف المحاضرة في بيان عظمة هندسة عين شمس- و بالتالي عظمتهم الشخصية - مقارنة بكليات الهندسة الأخري التي تبدو كمدارس إعدادية بجوار هندسة عين شمس. ربما يمكنك عزيزي القاريء أن تتخيل حجم هذه الدعاية و تأثيرها إن علمت أن أحد الطلبة رد علي ذات مرة حين إنتقدت الكلية بأن المناهج في هندسة عين شمس تماثل المناهج في ناسا!

بالطبع ناسا هي هيئة أبحاث الفضاء و ليست هيئة تعليمية فليست بها (مناهج)، و إن كانت هندسة عين شمس تماثل ناسا في المستوي العلمي فإن وسامتي تفوق وسامة توم كروز و براد بيت و بيرس بروسنان مجتمعين. الجزء الثاني من المقال هنا.