الشركات متعددة الجنسيات في مصر

في مقال سابق إنتقدت نظام التعليم في كلية الهندسة بجامعة عين شمس، فرد عمرو أمان بأن الشركات متعددة الجنسيات تطلب الشهادة الجامعية حتي إن لم يكن لها إعتبار، و قام سامح بالرد بأن علي ذوي العقول أن يعملوا و يكونوا مشروعاتهم الناجحة لتكون بهذا مثالاً يحتذي و يضعوا بهذا القواعد و المقاييس في المجتمع. بدأت في كتابة رد عليهم و لكني وجدت أن الرد قد صار موضوعاً مستقلاً لهذا أضعه هنا. الرد يركز في المقام الأول علي الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات.

إقرأ الحادثتين التاليتين ثم إستنتج منهما ما يروق لك.

الحادثة الأولي: قام أحد المبرمجين الأكفاء الذين عملت معهم بالتقدم لمركز مايكروسوفت للإبتكارات Microsoft innovation Center بمشروع تخرجه الذي كان يدور حول التعرف علي الأشخاص من خلال بصمة القزحية. أنا لم أر المشروع بالتفصيل فلا أستطيع الحكم عليه و لكن رفض الموظف المسئول - لا أستطيع أن أصفه بأنه مبرمج أو مدير لأني بهذا أظلم المديرين و المبرمجين- إلتحاق هذا المبرمج بمركز مايكروسوفت بعد العديد من المناقشات و المداولات لمشروعه بحجة هذا الشاب خريج كلية هندسة قسم الإتصالات و ليس قسم حاسبات و بالتالي فهو يفتقد الخلفية العلمية التي تؤهله للإلتحاق بهذا المركز. بالطبع الموظف الذي رفض هذا الشاب كان مصري، و بالطبع تسببت هذه الحادثة في ضيق الشاب بالدولة و من فيها و كانت أحد العوامل التي ساهمت في سفره لدولة من دول الخليج و ترك مجال البرمجة كلية.

الحادثة الثانية: حين أرسلت سيرتي الذاتية لشركة مايكروسوفت في أمريكا كنت في السنة الثالثة في الكلية و لم أكتب فيها أني طالب في كلية الهندسة و حتي الآن لا أكتب في السيرة الذاتية أني خريج كلية الهندسة لأني لا أعتبر هندسة عين شمس كلية من الأساس. تمت الموافقة المبدئية علي السيرة الذاتية و إتصلت بي إحدي خبيرات الموارد البشرية في الشركة لإجراء مقابلة تليفونية إستمرت ما يزيد عن نصف ساعة تمهيداً لإستكمال الإجراءات للإلتحاق بالشركة (و الذي توقف أو تأجل لظروف شخصية).

لاحظ هنا أن كلا الحادثتين تمت مع نفس الشركة، هنا قام موظف بطلب شهادة من كلية مصرية (و بالتالي فهي كلية فاشلة) و أهمل باقي الإعتبارات، و هناك لم يبحث أحد عن الشهادة من الأساس، فماذا نستنتج من هاتان الحادثتان؟

هناك حادثة أخري قام فيها مبرمج مصري يعمل في مايكروسوفت في أمريكا بنشر إعلان علي منتدي للمبرمجين العرب عن تخطيط مايكروسوفت لإفتتاح مركز أبحاث في مصر، و أكد أكثر من مرة في الإعلان أن هذا المركز لا علاقة له بمايكروسوفت مصر و يتبع ريدموند مباشرة، فماذا نتستنج من هذا الإعلان؟

الفكرة هنا أن الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات حين تعمل في دولة مثل مصر فإنها تضع لنفسها أهدافاً محددة، غالباً هي تحقيق أرباح مادية ( و في هذا نجحت مايكروسوفت مصر في هذا نجاحاً ساحقاً من خلال تعاقداتها مع الحكومة و الصفقات المشابهة)، و ربما قامت هذه الشركات بتحويل بعض الخدمات (مثل الدعم الفني) إلي مراكز في مصر لأن العاملين فيها أرخص من أوروبا و أمريكا، و لكن الأعمال التي تعتمد علي الإبتكار و الإبداع فغالباً ما تحتفظ بها هذه الشركات في مراكز تقع في دول تستطيع أن تمثل إمداداً دائماً بهذه العقول. في مصر يمكنك أن تعثر علي شخص مبدع أو إثنين أو حتي عشرة كل عام (يتم نقلهم إلي أمريكا و أوروبا) ، و لكن لا يمكنك أن تقول أن هناك إمداداً دائماً بالعقول و الكفاءات العلمية يسمح لشركة مثل مايكروسوفت بإنشاء مركز أبحاث و برمجة مثل مراكزها التي يوجد إثنان منها في أمريكا و إثنان في إنجلترا و واحد في الصين و واحد في الهند.

و بالتالي فإن مايكروسوفت مصر هم بائعين في المقام الأول. الموظف الذي رفض إلحاق المبرمج الشاب بمركز مايكروسوفت للإبتكارات أخذ من مايكروسوفت مكتبه و سياراته و السترة الأنيقة و ربطة العنق و هاتفه المحمول الحديث الطراز و مرتبه الضخم و اللغة الإنجليزية التي يرطن بها بمناسبة و بدون مناسبة، و لكنه لم يأخذ من الشركة أي من المقومات الفعلية التي أعطت شركة كهذه إسمها و حجمها العلمي و الإقتصادي (1) . بالطبع هناك خطأ من الجانب الأمريكي يتمثل في إختيار شخص كهذا في مثل هذا المنصب، و لكن الهدف الرئيسي لشركة مايكروسوفت في مصر هو تحقيق المبيعات و ليس إنشاء مراكز للبرمجيات و البحث العلمي، و بالتالي لا تتوقع من الشركات المتعددة الجنسيات في مصر الكثير من الإبداع أو التفتح الفكري بينما يمكنك أن تجد هذا التفتح الفكري و الإبداع في نفس الشركات في أمريكا و أوروبا.

في إحدي اللقاءات مع د. أحمد زويل قال إن معهد كاليفورنيا للتقنية (الذي يعمل به كأستاذ و باحث) تلقي تبرعاً ضخماً من أحد مالكي شركة إنتل (و الذي تخرج من هذا المعهد)، فما الذي يدفع شخصاً مثل هذا لدفع مبلغ خرافي بدون فائدة مباشرة تعود عليه؟

الفكرة أن هذا الشخص إستطاع أن ينشيء شركة إنتل بسبب العقول التي وفرها هذا المعهد و المعاهد و الكليات الأخري ذات المستوي العلمي الراقي في أمريكا. هو يعلم أن الإزدهار العلمي في هذه المعاهد و الكليات ضروري لقيام و إستمرار شركته.

لو طبقا فكرة أن الإبتكار في الشركات العملاقة يأتي من إمداد دائم بالعقول تقوم به الكليات و المعاهد العلمية، فإن الشركات متعددة الجنسيات العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات ليست ملومة في أن لا تضع في إعتبارها مصر كدولة يرجي منها أن يقوم فيها مركز للبرمجة و البحث العملي لأن مصر لا يوجد بها كليات و بالتالي تمثل العقليات العلمية المحترمة بها إستثناءاً يؤكد القاعدة.

هنا تأتي الفكرة التي طرحها سامح و هي أن علي ذوي العقول القيام بمشروعات ناجحة تكون نموذجاً يثبت الأسلوب الأمثل في العمل و التعلم، و هي فكرة ممتازة و لكن لابد من الأخذ في الإعتبار أن هناك عوامل أخري تدخل في نجاح المشروعات بخلاف العقول و الخلفيات العلمية.

حين سُئل أحد مديري شركة إنتل لماذا أقمتم مصنعاً في إسرائيل و لم تقيموا مصنعاً في دولة من الدول العربية ذكر عدة عوامل كان علي رأسها شبكات الإتصالات و نقل البيانات المتهالكة في الدول العربية. هناك عوامل عدة تتدخل في نجاح شركات تكنولوجيا المعلومات لابد من توافرها في الدولة ككل، و علي رأسها توافر عقليات في مجالات أخري مهمة لقيام شركات تكنولوجيا المعلومات بخلاف العقليات البرمجية (مثل المحللين الإقتصاديين، مسئولي الموارد البشرية، الخ).

أنا لا أعني بهذا تثبيط الهمم أو دعوة ذوي العقول لأن يتركوا القضية، علي المرء أن يسعي و يطلب التوفيق من الله و لكن ليس عليه إدراك النجاح، فقط أنا أقول أن علينا أن نلتمس العذر لذوي العقول إن حاولوا و فشلوا لأن هناك عوامل عدة ليست تحت سيطرتهم.

_______________________________________________________________________

Cargo Cult(1) راجع مقال