الدستور Exclusive

منذ أن صدرت جريدة الدستور و للشباب مساحة ضخمة من الكتابة فيها بل إن الكثير منهم يرأس الكثير من الصفحات و الأبواب، و هي تجربة غير مسبوقة علي قدر علمي، و فيها تشجيع للشباب و إستغلال لقدراتهم و طبيعتهم التي تتميز في المعتاد بالتجديد و الإبتكار مع كم لا بأس به من قبول المخاطرة، المخاطرة بتقديم أبواب غير مألوفة و مخاطرة في إختيار الموضوعات و طريقة الكتابة، و هي نقطة تحسب لإبراهيم عيسي رئيس التحرير، و بالطبع تسبب هذا في أن الشباب يمثلون فئة ضخمة من قارئي الجريدة.

إلا أن هذا تسبب في مشكلة أخري هي إفتقار الجريدة لعمق الكتابات. حتي حين إستعانت الجريدة بعدد من الكتاب من ذوي الوزن الثقيل من أمثال د. جلال أمين و فهمي هويدي فإن المساحة المخصصة لهم كانت صغيرة للغاية مقارنة بالمساحات المخصصة للشباب و مقارنة بثقل وزن هؤلاء الكتاب.

عادة ما تشتري والدتي الجريدة و عادة ما أقرأ أعداد الجريدة متأخراً يوم أو إثنين. فوجئت بالأمس أن عدد يوم الأربعاء جاء معه ملحق خاص بأخبار المشاهير! الملحق إسمه Exclusive أي حصرياً، و هو يضم حورات مع عدد من المشاهير و أخبارهم.

الحوارات و الأخبار ليست فنية، بل هي سخيفة للغاية من النوع الذي يذكرك بمجلة People الأمريكية الشهيرة الخاصة بأخبار المشاهير. أخبار من نوعية ذهاب النجمة فلانة إلي مارينا هذا الاسبوع، إنتظار النجم الفلاني لمولود جديد، إلخ. الحوارات كانت أشد سخفاً و ضمت أسئلة من نوعية ما إذا كانت إليسا تفكر بالتأمين علي جسمها و ما إذا كانت تحارب عمرو دياب أم لا، دعك بالطبع من الإسم الإنجليزي الذي لا داعي له مادام القاريء المستهدف عربي الثقافة (إن كان من يهتم بمثل هذه الأشياء يمتلك اي ثقافة من أي نوع).

ذكر د. أحمد خالد توفيق أن في اللغة الروسية كلمة “بريجيب” تعني محاولة تعديل العصا المعوجة ناحية اليمين مما يتسبب في إنعواجها ناحية اليسار. أعتقد أن هذا هو ما صار إليه الوضع الآن بالنسبة لجريدة الدستور، فقد إنحدر بها إعتمادها علي الشباب و إستهدافهم كقارئين إلي وضع مزري.

ما الذي يهدف إليه رئيس تحرير الجريدة و رئيس مجلس إدارتها من إضافة ملحق كهذا لجريدة عرفت في المقام الأول بأنها جريدة معارضة مهتمة بالأوضاع في مصر بشكل خاص؟ لا يخطر ببالي إلا هدفين إثنين أعتقد أن الجريدة تحاول أن تحقق أحدهما أو كلاهما بهذا الملحق :

تحقيق المزيد من الإنتشار:

حين كنت صغيراً قرأت في مجلة فلاش إحدي المقالات أو القصص الساخرة -لا أتذكر بالظبط - التي تتحدث عن مخرج يريد إخراج فيلم يرضي كل الأذواق، و قد قرر أن يسمي الفيلم “الراقصة الضاحكة و إنتقام المطرب الإرهابي”. إن كانت الجريدة تستهدف مزيد من الإنتشار بأن تضم إلي صفتها كجريدة سياسية معارضة صفة نقل أخبار المشاهير فإن هذا الأسلوب لا يختلف كثيراً عن نفس الفكرة، و هي أيضاً نفس فكرة الأفلام الهندية التي تضم بعض الشيء من كل شيء، رقصة، أغنية، مشاهد قتال، مشاهد تراجيدية، إلخ. لست خبيراً بالتسويق الإعلامي إلا أني لا أعتقد أن هذا سيحقق مزيد من الإنتشار للجريدة لأن الفئتين مختلفتين، من الصعب أن تجد شخصاً مهتم بالجرائد المعارضة و الوضع السياسي للبلد و في نفس الوقت يهتم بأن يعرف أين تصيف ياسمين عبد العزيز هذا العام.

تقديم ما يريده الشباب لهم:

بالإضافة لنفس الفكرة السابقة من أن فئة الشباب الذين يهتمون بقراءة الدستور تختلف عن من يهتمون بأخبار المشاهير، فإن هناك نقطة خطيرة هنا هي ما إذا كان علي الإعلام أن يطيع الناس فيما يريدونه، أم أن عليه أن يسهم بشكل ما في تشكيل أذواقهم.

بالطبع كل من له عقل يدرك أن آخر ما يحتاجه المجتمع في الوقت الحالي (أو في أي وقت في الواقع) هو معرفة أخبار الفنانين. علي الرغم من إقتناعي بأن الفن وسيلة من وسائل نقل و تشكيل الأفكار و التسلية، فإن هذا لا يعني أن الفنان يجب أن يعامل بثقافة المشاهير الأمريكية Celebrities التي تتجاوز الأخبار الفنية (مثل آخر الأفلام التي نزلت في دور العرض) إلي الأخبار الشخصية للفنان و التي لا تعود علي الجمهور بأي فائدة من أي نوع. ستيفن كينج الكاتب الأمريكي الرائع يرفض أن يوقع الأوتجرافات لأنه في البداية و النهاية مجرد إنسان عادي. عادة ما يصف كينج نفسه أنه لا يختلف كثيراً عن المجانين في مستشفي المجانين، هو شخص تدور في رأسه أفكار معينة ينقلها للورق، كل ما هنالك أن جنونه من النوع الذي يروق للناس و يجلب له المال. هي عبارة متواضعة من شخص يحسن تقييم نفسه و التفرقة بين أنه كاتب ناجح و بين أن يتحول إلي أحد المشاهير طبقاً للمفهوم السائد في أمريكا.

إن قلنا أن هناك فئة من الناس تهتم بمثل هذه التفاهات فهل معني هذا أن الإعلام عليه أن يرضي هذه الفئة طلباً للربح بدون أي هدف آخر أم أن للإعلام دوراً في تشكيل ثقافة الناس و تغيير تفكيرهم و عاداتهم للأسوأ أم للأحسن؟

فلنتحدث عن الإحتمال الأول، البحث عن الربح بغض النظر عن أي هدف آخر. في دراسة إستمرت ست سنوات قام إثنان من الباحثين بالبحث عن الشركات التي كونت لنفسها إسماً في مجالها يحترمه العامة و الخبراء علي السواء، الشركات التي غيرت أو ساهمت في تغيير العالم أو المجتمع، و التي إستمرت لما يزيد عن الخمسين عاماً. بعض الشركات التي ضمتها الدراسة هي سوني، فنادق ماريوت، بوينج، أي بي إم، ديزني، فورد، إلخ. الدراسة كانت تهدف للبحث عن العامل المشترك بين كل هذه الشركات و الذي ساهم في وصولها لما وصلت إليه و إستمرارها في مكانتها علي مدي ما يزيد عن نصف قرن.

العامل المشترك الذي وصلت إليه هذه الدراسة أن هذه الشركات تتميز بأن لها رؤية و هدف بخلاف الربح المادي. الهدف يشكل شيئاً هاماً في وجدان العاملين و المديرين علي وجه سواء و الشركة علي إستعداد لأن تتجاوز عن بعض الأرباح قصيرة المدي بدون أن تتخلي عن هدفها الأساسي. بشكل ما يمكن إعتبار هذه الدراسة تأكيد علي المعني الموجود في الآية الكريمة “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”. الدراسة تم نشرها في كتاب إسمه “بنيت لتستمر Built to Last” و هو أحد أشهر كتب الإدارة في العالم.

إن كان بعض الناس يهتمون بتفاهات فهذا لا يعني أن الإعلام عليه أن يرضيهم فقط بدون أن تكون له أي رؤية أو هدف، لأن هذا قد يؤثر علي الأرباح التي تأتي علي المدي الطويل و يؤثر علي مدي إستمرارية نجاح الجريدة.

الإحتمال الثاني هو أن يكون للإعلام دور في تشكيل ثقافة الناس و أذواقهم هو شيء مؤكد في كثير من الدراسات الإعلامية و هو ما نحتاجه اليوم من جرائد مثل الدستور في مواجهة الهجوم الرهيب للقنوات الفضائية و الأفلام العربية التي يكون أغلبها تافه. المجتمع لا يحتاج المزيد من وسائل الإعلام التي تعرض المرأة علي أنها جسد فقط لكي تأتي الجريدة لتسأل إليسا عن ما إذا كانت تفكر في التأمين علي جسدها أم لا، بل إن الصورة العكسية هي ما يجب نقله و التركيز عليه. في مجتمعات منحدرة علمياً و إقتصادياً و سياسياً و إجتماعياً و عسكرياً فإن آخر ما يجب أن نهدف إليه هو أن يتحول المشاهير إلي مخلوقات مقدسة أعلي من باقي البشر، و آخر ما نتمناه هو أن يأتي اليوم الذي يصير لدينا فيه أشخاص “يشتهرون بأنهم مشاهير” علي حد تعبير ستيفن كينج عن بريتني سبيرز التي تلاحقها جرائد المشاهير الأمريكية بالرغم من فشل ألبوماتها الأخيرة كمغنية.

أتمني أن ينتبه القائمون علي الجريدة إلي الشرك الذي ينحدرون إليه و أن يضعوا لأنفسهم رؤية واضحة لدورهم في المجتمع و ما يهدفون لتحقيقه.