أنشودة البجعة

أحد أنواع البجع يسمي البجع الأخرس. في الحقيقة هو ليس أخرس و لكن الصوت الذي يصدر منه قليل مقارنة بباقي أنواع البجع المزعجة عالية الصوت. تقول الأسطورة الغربية القديمة أن البجعة الخرساء تعيش طوال عمرها دون أن تصدر صوتاً حتي تأتي لحظة موتها، عندها تشدو بأغنية غاية في العذوبة و الحزن قبل أن تموت.

* * * * * *

حين سافرت الي فرنسا سعدت حين إكتشفت أن لي جاراً مسلماً في المبني الصغير الذي أقطن به. عشت في المبني شهرين دون أن أعرف عنه شيئاً سوي أنه إنسان مهذب صموت لا يتدخل فيما لا يعنيه و كانت العلاقة بيننا لا تتعدي تحية المساء حين القاه علي السلم و انا صاعد الي داري بعد عودتي من العمل. بشكل ما شعرت أن هذا طبيعي بالنسبة لفكرتي عن الغربيين بأنهم قوم لا يتدخلون في شئون غيرهم.

في أحد المرات و بينما أنا أوقع في الكشف الخاص بالمبلغ الذي يدفع شهرياً لتنظيف المبني الذي أسكن فيه – و هو المبلغ الذي يشترك فيه السكان جميعاً – وجدت أن هناك من يدعي (علي). سألت الرجل المسئول عن المبني - و هو مزيج من حارس و عامل نظافة و نجار و كل ما يخطر ببالك من حرف يدوية – عن كنه هذا ال (علي) فأشار الي الشقة المقابلة لي. إنها شقة ذلك الصموت المهذب.

عندها زاد فضولي. هل هو مغترب مثلي؟ انا لم أتبادل معه جملة واحدة تضم أكثر من ثلاث كلمات منذ أن سكنت هنا فلا أستطيع أن أميز لهجته من لهجة الفرنسيين، دعك من أنني لست فولتير، أنا أتكلم أشنع فرنسية يمكن أن يتكلمها إنسان علي وجه الأرض و بالتالي فإني لن أميز إختلاف اللهجات بسهولة.

ثم أني في خلال الشهرين الماضيين لاحظت أن الغربيين ليسوا جميعاً صموتين إنعزاليين مثله كما كنت أظن. هناك من يتشاجر مع شركاؤه في المسكن، هناك من يخرج من البيت و قد طلا وجهه بألوان العلم الفرنسي ليذهب مع رفاقه لتشجيع منتخب كرة القدم الفرنسي في إحدي المباريات وسط كثير من الصياح و الهتاف. سلوك هذا ال (علي) ليس هو السلوك الغربي التقليدي بل هي طباعه الشخصية.

* * * * * *

أحد أنواع البجع يسمي البجع الأخرس. في الحقيقة هو ليس أخرس و لكن الصوت الذي يصدر منه قليل مقارنة بباقي أنواع البجع المزعجة عالية الصوت.

* * * * * *

في أحد الأيام كنت خارجاً في طريقي الي العمل و قابلته و هو يغلق باب شقته تمهيداً للنزول. إستغللت الفرصة و القيت عليه تحية الصباح و عرفته بنفسي و بالتالي صار عليه أن يعرفني بنفسه كنوع من الرد علي هجمة التعارف التي هجمت بها عليه.

عرفت أنه مسلم من البوسنة في الخامسة و الثلاثين من عمره و أنه يعمل محاسباً في متجر عملاق من المتاجر التي تبيع كل شيء و أي شيء. كان المحل شهيراً للغاية و يقع قريباً من المنزل و كما توقعت كان في طريقه الي العمل. أخبرته أن المتجر في طريقي رغم أنه لم يكن كذلك و لكني كنت أستغل الفرصة التي سنحت لي لأتبادل معه بعض الكلمات.

في الطريق تبادلنا بعض الكلمات البسيطة عن الأحوال العامة للبلاد، عن مباريات كأس العالم التي إكتشفت أنه لم يكن يتابعها إطلاقاً و عن المبيعات في المتجر الذي يعمل به. كان حواراً عادياً من الذي يمكن أن يدور بين غريبين في الحافلة، لا هدف له و لا عمق و سرعان ما ينساه المرء في ثوان.

تدريجياً توطدت علاقتي به. كنت أزوره أو يزورني مرة كل أسبوع تقريباً لنتكلم سوياً و ربما نلتهم العشاء معاً. خرجنا معا لنتنزه معاً مرة أو إثنتين تقريباً. كان إنساناً هادئاً مهذباً و كان علي قدر لا بأس به من الثقافة تعجبت من وجودها في بائع. كان يتكلم بلهجة هادئة مهذبة لا إنفعال فيها و عادة ما يستمع إليّ أكثر مما يتحدث.

سألته ذات مرة لماذا ترك البوسنة و جاء الي فرنسا خصوصاً و أن الحرب قد إنتهت منذ سنوات. تغير وجهه و تجمدت النظرة في عينيه و شرد قليلاً ثم قال في إقتضاب:

-“جئت للعمل”.

-“ألم تجد عملاً في بلادك”.

-“وجدت. و لكن الحياة هنا أفضل”.

هنا أدركت أنه لا يريد أن يخبرني السبب الحقيقي الذي ترك بلاده من أجله. أنا غير متابع لحالة بلاده حاليا. ربما كانت الأحوال الإقتصادية و الإجتماعية في بلاده متردية بسبب الحرب السابقة أو ربما كان هناك سبب آخر لا أعلمه.

في أحد الأيام عندما عدت من العمل في المساء فكرت أن أطرق باب علي و أدعوه للعشاء معي. طرقت بابه ففتح بعد دقيقتين تقريباً.

-“السلام عليكم. كيف …”.

بترت عبارتي حين رأيت وجهه الشاحب و بقايا الدموع في عينيه.

-“ماذا هناك؟ ما الذي حدث؟”

نظر لي و كأنما يبحث عن رد ثم قال:

-“أدخل”.

قالها و أدار ظهره لي و دخل الي شقته. تبعته حتي الردهة التي يستخدمها كغرفة معيشة. كان جهاز التلفاز مفتوحاً و كان يذيع برنامجاً سخيفاً لا أتذكر موضوعه.

جلس عليّ علي الأريكة المفضلة له و رفع قدمه علي الأريكة و أحاط ساقيه بذراعيه و ضم ساقيه الي جسده. بدا لي هشاً و محطماً الي أقصي درجة.

بدأ علي كلامه دون كلمة أخري مني، فقط أمسكت بجهاز الريموت كونترول و أغلقت التليفزيون الذي لم يكن يحظي بأي متابعة.

* * * * * *

تقول الأسطورة الغربية القديمة أن البجعة الخرساء تعيش طوال عمرها دون أن تصدر صوتاً حتي تأتي لحظة موتها، عندها تشدو بأغنية غاية في العذوبة و الحزن قبل أن تموت.

* * * * * *

-“منذ سنوات كنت أعيش في البوسنة. كنت أعمل بائعاً في محل صغير و في نفس الوقت كنت أدرس اللغة الإنجليزية و الأدب الإنجليزي في الجامعة. لم أكن غنياً و لكني كنت راضياً و منكباً علي دراستي التي كنت أحبها حقاً. كنت أعيش مع أمي العجوز و لم يكن لي أخوة و قد توفي أبي منذ صغري و علي الرغم من هذا لم أكن أعتبر نفسي بائساً أو محروماً.

تدريجياً بدأت أنتبه إلي إحدي الفتيات التي تسكن بجوارنا في نفس الحي، في أحد الشوارع القريبة من بيتي. لا أعلم ما الذي لفت إنتباهي لها. لم تكن ذات جمال خارق ولكن وجهها كان مريحاً به الكثير من الرقة و شيء يبعث علي الكثير من الإحترام.

عرفت فيما بعد أن إسمها أمينة و أن أمها هي إحدي معارف أمي. في مثل المناطق البسيطة التي نعيش فيها يعرف الناس بعضهم البعض و تتواصل بينهم العلاقات الإجتماعية بسهولة. ذات يوم زارتنا أمها و كانت الفتاة معها. أثناء الحوار تطرقت أمي الي حبي للكتب و القصص فسألتني أمينة عن الكتب التي أقرأها. إكتشفت أنها هي الأخري مهتمة بالأدب و القراءة و أنها متابعة جيدة للأحداث التي تقع في العالم.

تدريجياً وجدت نفسي أفكر فيها و في الكلمات التي تبادلناها سوياً في هذا اللقاء. كان شعوراً جميلاً أن تجد كل إهتماماتك قد تضاءلت لتحل محلها صورة فتاة ما. كنت أقرأ بمعدل كتابين في الشهر علي الأقل فصرت كلما أفتح كتاباً أجد نفسي شارداً أتذكر وجها و صوتها الرقيق و إبتسامتها العذبة. طلبت من أمي أن تطلب لي يد هذه الفتاة من أمها و في نهاية العام تزوجتها في حفل بكت فيه أمي و أمها و كأننه حفل تأبين لنا لا حفل زواج.

عشت معها ستة أشهر لا تصفهم الكلمات. أن يكف المرء عن أن يكون أنا ليصبح نحن. أن تصبح كل أنشطة حياتك و إهتماماتك أكثر إثارة حتي لو كان هذا النشاط هو إلتهام الإفطار لأن هناك من صار يشاركك هذه الأنشطة و الإهتمامات. لم أكن أحب النهر كثيراً و أتعجب للناس الذين يتنزهون علي ضفافه و كأنه لا توجد أي نزهة أخري سوي السير علي ضفافه و لكن أمينة علمتني أن أحبه، أن أحب ضوء الشمس الذي يترقرق علي ماؤه و أن أحب الطيور التي تهبط علي ضفتيه. كنت أري الأشياء بعينيها هي و ما أجملهما من عينين. عينان قادرتان علي رؤية الجمال و الخير في كل ما يحيط بك مهما كان مملاً أو معتاداً”.

سكت قليلاً ثم قال:

-“مثل كل ما هو جميل في الحياة إنتهت هذه الأيام، و كانت كلمة النهاية هنا هي الحرب. مثلما يحدث في الأحلام التي تفيق منها لتجد أنك مازلت علي أرض الواقع و أنك لا و لم و لن تطير في يوم من الأيام، افقنا في يوم من الأيام لنجد أننا أسيرين في أحد المعتقلات.

في المعتقل كان يتم فصل النساء عن الرجال فإفترقت عن أمينة و لكني كنت أراها شبه يومياً. التفرقة بين الرجال و النساء كانت في أماكن البيات فقط، اما في الأعمال و التي كانت قائمة علي قطع أشجار الغابات و قطع الأخشاب و تصنيفها و تخزينها فكان الرجال يتساوون فيها مع النساء. أمام عيني كنت أري أمينة تقوم يومياً بقطع الأخشاب و حملها علي كتفها في الشتاء القارس. لم أكن أستطيع أن أقدم لها أي عون من أي نوع لأن هذا كان كفيلاً بإثارة ليوبيناس و زبانيته و غالباً سيكلفونها بمزيد من العمل.

لم أستطع يوماً أن أرفع عيني في عينيها. كنت دائماً شخصاً ثوري الأفكار و كنت أناقش معها أفكار جيفارا بحماس أقرب الي الجنون، و الآن انا ظهرت علي حقيقتي، مجرد شخص عاجز عن أن أدافع عن نفسي أو عن الفتاة الوحيدة التي خفق قلبي لها. عاجز حتي عن أن أساعدها في حمل الأخشاب و تقطيعها. انا مجرد إنسان فارغ يجيد الكلام و لكنه يجبن حين يري أول مدفع رشاش يوجه لصدره.

ذات مرة رأيت أمينة تقطع الأخشاب و ترتجف من شدة البرد فلم أستطع أن ألتزم بتحفظي و محاولتي أن لا أظهر أي علاقة بيننا. إتجهت إليها و نزعت معطفي و وضعته علي كتفيها دون أن أتبادل معها كلمة واحدة. إستدرت عائداً الي عملي فإستوقفني صوت مدير المعتقل الذي رأي ما فعلته.

كان وحشاً يدعي (راديسلاف ليوبيناس). سأظل أتذكر هذا الإسم ما حييت. أوقفنا بجوار بعضنا و سألني عن علاقتي بها. أخبرته بأنها زوجتي فإرتسمت علي وجهه إبتسامة صفراء و طلب من أحد الجنود مدفعه الرشاش. تصورت أنه سيقتلنا و تمنيت أن لا تتألم أمينة كثيراً. أعطاه الجندي مدفعه فأمر ليوبيناس أمينة بأن تنزع المعطف و تضعه علي الأرض. في البداية لم أفهم لماذا. ما أن فعلت أمينة هذا حتي خفض ليوبيناس فوهة مدفعه الرشاش و أطلق سيل من الرصاصات علي المعطف الملقي علي الأرض ليحيله خرقة بالية من القماش. إرتجفت أمينة لصوت الرصاصات المفاجيء و شعرت بالشفقة تجاهها تغمرني للمرة الألف منذ أن بدأ هذا الكابوس.

نظر لي ليوبيناس نظرة شامتة و قال: “ها قد ذهب المعطف، لن يناله أيكما”.

ثم أشار بفوهة مدفعه الي كومة من الخشب الملقاة علي الأرض و قال لي:“ضعها علي كتفها”. نظرت الي كومة الخشب فوجدتها كومة ضخمة ثقيلة لا أستطيع أن أحملها أنا علي كتفي. نظرت إلي أمينة فهزت رأسها إيجاباً و في عينيها ترجوني أن لا أرفض. الرفض لا مقابل له هنا سوي القتل.

حملت كومة الخشب بصعوبة بالغة ووضعتها علي كتف أمينة و أنا أضع عيني في الأرض. لم أستطع أن أرفع عيني في عينيها و أنا أفعل هذا.

حملت أمينة كومة الخشب و سارت بها بإتجاه المخزن الذي يتم فيه تخزين الأخشاب. لم تتحمل ثقل الأخشاب و تعثرت بعد أن سارت بضع خطوات و سقطت أرضاً”.

سالت الدموع من عينيه و بدأ صوته يتحشرج.

-“إنفجر ليوبيناس و جنوده في الضحك وهرعت اليها و ضممتها بين ذراعي و بكيت و بكت هي لأول مرة منذ أن دخلنا المعتقل.

في الأيام التالية بدأت صحة أمينة تسوء. كانت تشحب و تفقد الكثير من وزنها يوماً بعد الآخر. في كل يوم كنت أراها كنت أشعر بأنها فقدت عشرة كيلو جرامات من وزنها مقارنة باليوم السابق و علي الرغم من هذا فإن الأوغاد رفضوا طلبي بأن يطلبوا لها طبيباً أو يعفوها من العمل أو حتي يخففوه. الكثير من الأسري يموتون يومياً فلن تشكل هي فارقاً إن ماتت.

و قد كان. ذات مساء شعرت بيد غليظة تهزني بعنف. فتحت عيني لأجد أحد الجنود هو الذي يوقظني. قال لي :

-“الجنرال يأمرك أن تأتي لتدفن زوجتك”.

هكذا بمنتهي البساطة و بلا أدني إنفعال، فلو كان يأمرني بأن أقوم بتنظيف العنبر الذي ينام فيه المعتقلين لبدا في صوته إنفعال أكثر من هذا.

قمت و أنا أشعر أن هذا كابوس و أن الأمر لا يمكن أن يكون حقيقياً. تبعته كالمنوم مغناطيسياً حتي القسم الذي يضم النساء في المعتقل. وجدت أمينة مسجاة علي أحد الأسرة و علي جسدها أغطية بسيطة لا تكفي لتقي من البرد القارس. حول فراشها تجمعت بعض النسوة و الدموع تسيل من أعينهن في صمت. علي الرغم من أن الموت هنا غدا شيئاً عاديا إلا أن موت أمينة لابد و أن يكون شيئاً مختلفاً بالنسبة لكل من عرفها و لو للحظات.

أمرني أحد الظباط أن أحفر لها قبراً وسط الغابات في الجليد لأدفنها فيه. لا يوجد موتي اليوم و إلا لدفنت مع الآخرين في قبر جماعي. غير مسموح بأي طقوس للدفن، لولا خوف الضباط من إنتشار الأمراض فلربما لم يدفنوا أي من الموتي أساساً.

حملت جسدها و سرت بإتجاه الغابات. كنت مازلت في حالة الذهول تلك منذ أن أيقظني ذلك الجندي من النوم. أتذكر أني و بينما كنت أحفر لها قبرها وسط الجليد و أقوم بدفنها لم أكن أدعو الله لها بالمغفرة أو الرحمة، فقط لم أكن أردد سوي (سامحيني فليس بيدي ما أفعله). كنت أرددها بلا إنقطاع فلو رآني أحدهم لأقسم بأني مجنون.

لم أبك إلا حين عدت الي فراشي. بكيت بلا إنقطاع حتي أشرقت الشمس في صباح اليوم التالي. عندما ضرب النفير لإعلان بدء يوم جديد من العذاب مسحت دموعي و عشت كالآلة منذ ذلك اليوم و حتي إنتهت الحرب و خرجت من المعتقل. كنت أفعل ما يطلب مني دون أي مشاعر. لم أكن أشعر بالبرد أو الإجهاد أو الحزن أو القلق.

بعد إنتهاء الحرب بحثت كثيراً عن أمي فعرفت أنها توفيت هي الأخري في أحد المعتقلات الذي لم يكن يبعد عن هذا الذي كنت فيه أكثر من بضعة كيلو مترات. تمنيت أن تكون قد ماتت سريعاً و لم تعاني طويلاً.

بعد هذا شعرت بأني عاجز عن أعيش في البوسنة أكثر من هذا. لا أريد أن أري النهر و لا أريد أن أري الأماكن التي عشت فيها لأنها كلها تذكرني بأمينة، بل و لا أريد حتي أن إسمع عن أي فتاة إسمها أمينة. جئت الي فرنسا و عشت لسنوات أحاول أن أنسي الماضي و آمل أن أموت يوماً فأقابل أمينة في العالم الآخر. عندها سأجثو علي ركبتي و أقبل يديها و أطلب منها أن تسامحني و تغفر لي”.

لم أستطع أن أحكم فضولي فقاطعته:

-“لماذا لم تسافر إلي إنجلترا مثلاً؟ أنت تقول أنك درست الأدب الإنجليزي فمن المنطقي أن تسافر الي دولة تتحدث الإنجليزية”.

مسح دموعه و نظر لي واجماً للحظات و كأنه لم يتوقع السؤال ثم قال:

-“كانت فرنسا أول فرصة سفر سنحت لي. لم أفكر و لم أختر فقط كنت أفر من كل ما يربطني ببلادي و ما يذكرني بأمينة”.

سكت قليلاً فإحترمت صمته لبعض الوقت ثم قلت:

-“لماذا تذكرت أمينة الآن بالذات؟ هل اليوم هو ذكري زواجكما أو وفاتها؟”

هز رأسه نفياً و أكمل قصته:

-“حين عشت هنا تابعت أخبار مجرمي الحرب الصرب الذين كانوا يقدمون للمحاكمة و عرفت أن راديسلاف ليوبيناس أحد المطلوبين للمحاكمة و لم يتم العثور عليه إلا منذ فترة قليلة. حاولت أن أتابع أخبار محاكمته و لكن للأسف لم تتم إذاعة كل المحاكمات علناً.

قاطعته في إنفعال:

-“محاكمة قادة النازي كانت تذاع في السينمات في أوروبا حين لم يكن هناك تلفاز”.

اشاح بيده و كأن الأمر لا يهمه و أكمل:

-“رأيت له صورة واحدة فقط في الجرائد. نفس النظرة الواثقة و البرود العسكري، فقط زاد عدد الشعيرات البيضاء في شعره”.

أشار الي التلفاز و قال:

“اليوم تم النطق بالحكم عليه فما الحكم الذي تتوقع أنه صدر ضده”؟

فتحت فمي لأرد إلا أنه أكمل و كأنه لا نتظر مني رداً.

-“السجن لعشرة أعوام. تهم بالقتل و التعذيب و إرتكاب المذابح ثبتت ضده و في النهاية صدر ضده حكم بالسجن لعشرة أعوام يخرج بعدها ليمارس حياته كأي سيد مهذب. هذا الرجل دمرني و حرمني من حياتي السعيدة التي كنت أعيشها مع زوجتي و فعل المثل للكثيرين و في النهاية يصدر ضده حكم قضائي و كأنه سرق بضعة الآف من أحد البنوك”.

لم أعرف بماذا أرد عليه فأنا لم أكن أتابع هذه القضية و لا أعرف عنها شيئاً. قمت من مكاني و جلست بجواره و ربتّ علي كتفه دون أن أنطق.

سالت الدموع من عينيه مجدداً و قال بصوت مختنق:

-“لو كان في هذه الدنيا عدل لقتل هذا الرجل الآف المرات بعدد من قتلهم و دمر حياتهم”.

قالها و إنفجر في البكاء الحار. حاولت أن أهديء من روعه و لكن بلا فائدة. قمت و ذهبت الي شقتي و أخذت شريطاً من الأقراص المنومة التي أستخدمها أحياناً حين أعاني من الأرق و إتجهت الي شقته. لابد من أن ينام الآن ليتوقف عن التفكير في ما حدث. لو كنت طبيباً لحقنته بنوع من المهديء ليكون سريع المفعول و لكني لست طبيباً و لا أعرف كيف يمكنني أن أجد طبيباً بسرعة الآن.

عندما كنت أمام باب شقته توقفت مفكراً. ربما يستخدم الأقراص في الإنتحار بأخذ جرعة مضاعفة من المنوم. هو لا يبدو لي من النوع الذي ينتحر و لكن الحالة التي يمر بها الآن قد تدفع أي إنسان لهذا.

عدت الي شقتي و تركت شريط الأقراص بعد أن أخذت منه قرصاً واحداً و إتجهت الي شقة علي. كان لا يزال في نوبة البكاء العنيفة هذه فأعطيته قرص المنوم و كوب من الماء. إبتلع المنوم دون أن يسأل عن كنهه و بعد ساعة تقريباً بدأ يهدأ و بدأ جفنيه يسقطان. سحبته من يده الي غرفته و جعلته يستلقي في الفراش و سحبت الأغطية علي جسده. تدريجياً بدأ يغيب في النوم و هو يردد بلا إنقطاع:

-“لا أريد أن أعيش في هذا العالم”.

شعرت بالشفقة تغمرني تجاهه و فكرت في أن أقضي الليل بجواره إلا أني أعرف مفعول هذه الأقراص. لن يستيقظ قبل ثماني ساعات علي أقل تقدير. يمكنني أن أمر عليه غداَ في أي وقت فغداً يوم الراحة الأسبوعية لي.

في صباح اليوم التالي طرقت بابه فلم يفتح لي. شعرت بشيء من القلق إلا أني عزوت الأمر لقرص المنوم الذي أعطيته له. لابد أنه مازال نائماً.

بعدها بثلاث ساعات دققت جرس الباب فلم يفتح. هنا بدأت أشعر بالقلق. طرقت الباب بعنف و لا مجيب. لا أريد أن أبلغ الشرطة ثم يظهر في النهاية أن قرص المنوم هو السبب. نزلت الي حارس العقار و طلبت منه أن يصعد معي ليفتح شقة علي لأنه لا يرد منذ ساعات. في الغرب يحمل حارس العقار نسخة من مفتاح كل شقة في المبني تحسباً لظروف الطواريء و الحوادث.

صعد معي الحارس و فتحنا باب الشقة و دخلت متوقعاً الأسوأ. وجد علي في فراشه كما تركته منذ الأمس. هززته و ناديت إسمه فلم يستيقظ. لطمت خديه برفق ثم بعنف ولا فائدة. اللعنة.

طلبت من الحارس أن يطلب الإسعاف لأني جديد هنا و لا أعرف أرقام الطواريء. بعد دقائق تعالي صوت سارينة الإسعاف المولول و جاء إثنان من المسعفين و معهما طبيب شاب فحص علي سريعاً ثم نظر الي و قال في أسف:

-“لقد مات”.

نظرت له مذهولاً. لا يمكن أن تكون جرعة المنوم هي السبب فأنا آخذ نفس الجرعة منذ سنوات. بعد لحظات من الصمت قلت له:

-“هل أنت متأكد”؟

حدق في مندهشاً و كأنه لم يتوقع سؤالاً كهذا ثم قال:

-“بالتأكيد”.

-“و ما سبب الوفاة”.

-“لا توجد أي علامات واضحة. غالباً هي سكتة قلبية و لكن لا يمكنني أن أجزم دون فحص دقيق”.

* * * * * *

فيما بعد أثبت الفحص سلامة تشخيص الطبيب الشاب. لقد مات علي في هدوء و كأن الله قد إستجاب لرغبته بأن لا يحيا في هذا العالم الظالم الذي حرم فيه من زوجته و أمه و ذكرياته دون سبب و دون أن يلقي من دمر حياته جزاؤه.

لقد كانت القصة الأخيرة التي التي رواها علي هي أغنية البجعة التي شدت بها بعد أن عاشت طوال عمرها صامتة لا تنطق.

* * * * * *

ملحوظة: راديسلاف ليوبيناس شخصية حقيقية، و قد بإرتكاب مذابح و جرائم ضد المسلمين المدنين في البوسنة و في النهاية تم الحكم عليه في عام 2007 بالسجن لعشر سنوات فقط.