محمود مصطفي مأمون

في طفولتي كنت طفلاً ساكناً هادئاً إنطوائياً لدرجة مستفزة، كتلة من الجليد. الوحيد الذي نجح في كسر هذا الحاجز الجليدي كان محمود. مازلت أتذكر في الحضانة حين كان يذهب للمدرّسة ليستأذنها في الجلوس بجوار (أحمد عادل) عندها أصحح له المعلومة بأن إسمي (محمد عادل) ثم أعود إلي صمتي و إنغلاقي. بدأت قراءة القصص (رجل المستحيل و ملف المستقبل، الخ) في سن مبكرة نسبياً، و أتذكر أنه جاء ذات مرة ليريني قصة من نفس السلسلة ليسألني إن كنت قد قرأتها فرديت بهدوء أني قرأتها من قبل و لم أزد في الكلام. مرة أخري جاء ليعرض علي قصة أخري لم أكن قد قرأتها و عندها تبادلنا القصص و صارت القصص وسيلة هامة في تنمية صداقتنا الوليدة. كثيراً ما كنا نقرأ أنا و هو سوياً في نفس القصة. أنا من أسرع الناس قراءة في وسط كل من رأيت و لم أر في حياتي من يدانيني أو يفوقني سرعة إلا محمود. بالطبع سرعة القراءة ليست مهمة إلي هذا الحد، المهم فهمك لما تقرأ و تأثيره فيك و لكن في هذه السن الطفولية كان الأمر أشبه بتحدي غير معلن بيني و بينه في سرعة القراءة، و كان كثيراً ما يسبقني في الإنتهاء من الصفحة الحالية.

مرت سنوات ظل فيها صديقي الأقرب و الوحيد تقريباً، كنا نتبادل الزيارات في المنزل في الأجازة الصيفية، ولابد وقتها في هذه السن أن تقوم الأمهات بتوصيلنا لأننا كنا أصغر من أن نذهب إلي بيوت بعضنا بمفردنا. بعدها كونت أصدقاء آخرين في المدرسة و لكنه ظل واحد من أصدقائي المقربين. في الصف الثالث الإعدادي سافرت مع أهلي للسعودية و عدت بعدها بسنتين في بداية العام الثاني الثانوي، ظللت في خلال هذه العامين أتراسل معه و مع أصدقاء أخرين و أراه عندما أنزل أجازة مرتين في العام. عدت إلي مصر بشكل نهائي في بداية السنة الثانية الثانوية و مازلت أتذكر أنه في أول أيام عودتي للمدرسة أصر علي أن يحمل عني الحقيبة إلي الفصل ! لم تكن الحقيبة ثقيلة بل كانت خالية تقريباً لكنه كان ودوداً متحمساً يعبر عن ما بداخله بأي عمل كان.

عموماً كان محمود متحمساً لكل شيء يقوم به. في مباريات الكرة كان يأخذ فريقاً من اللاعبين ضعيفي المستوي (و أنا منهم) لأن من يجيدون اللعب تجمعوا سوياً في فريق واحد أو فريقين و لم يتبقي له سوانا، و لكنه كان دائماً حريصاً علي قيادة هذا الفريق ليغلب المحترفين. أنا لم أكن بهذا الحماس و كان الأمر بالنسبة لي بدرجة أو أخري (لعب). نعم أحب أن ألعب و لكن هذا الحماس الشديد لم يكن من طبعي. نفس الطبع ظل فيه عندما كبرنا و صرنا نلعب الإسكواش أو نمارس أي نشاط آخر، لابد أن يمارسه محمود بحماس و تفاني.

كان ملتزماً دينياً، و حين كنا نخرج كمراهقين و يقوم أحد الأصدقاء بمعاكسة فتاة مثلاً فإن محمود كان ينهاه بشدة قد تصل أحياناً للضرب الخفيف. أنا لم أكن كذلك، بسبب طبعي الإنطوائي لم أكن أنتقد سلوكاً أختلف معه لشخص ما إلا إن كان قريباً مني للغاية و في لحظة تسمح بهذا. علي الرغم من هذا ظل محمود محبوباً وسطنا جميعاً، الملتزمين و غير الملتزمين.

عندما تخرجنا دخلت أنا هندسة عين شمس و دخل هو هندسة الإسكندرية التي قضي فيها السنة الإعدادية ثم قام بالتحويل لهندسة عين شمس القريبة من منزله. دخل قسم ميكانيكا و دخلت قسم حاسبات، مما ساعد في عدم إلتقاؤنا كثيراً. كنا نلتقي في إفطار نعقده جميعاً في المدرسة مرة في كل رمضان أو في مناسبات زواج واحد من الأصدقاء أو وفاة والد أحد الأصدقاء.

في نهاية سنوات الثانوي عرفني علي مجموعة من أصدقاؤه من العباسية حيث يسكن. مجموعة من الأشخاص المهذبين الملتزمين دينياً كنا نخرج معهم لنلعب الكرة أو في رحلات، و لكني لسبب لا أعرفه تحديداً لم أقم أندمج وسطهم أو أئتلفهم و لم تقم بيني و بينهم جسور صداقة عميقة. فيما بعد عرفت بعد سنوات، بعد أن تخرجت من الكلية أن هؤلاء الشباب كانوا من الإخوان.

فيما بعد و عندما قامت الثورة عرفت أن محمود في تنظيم الإخوان، و عندما كنت أنتقد الإخوان أونلاين كانت المشادات تحدث بيني و بينه كثيراً. لم تكن مشادات بها سباب مثلاً و لكن في بعض الأحيان إتهامات بأني أهاجم الإخوان لأن هذا يكسبني شعبية و ذات مرة بعد أحداث الإتحادية كتب كلاماً يشكو فيه لله من أشخاص معينين ظننت أنه يقصدني من ضمنهم، و لكنه عندما قابلته في عقد قران أحد الأصدقاء إعتذر لي. عموماً كنت أكره أن أقابل محمود لأني كنت أكره الإخوان و ما يقومون به و أكره أن تتلوث مشاعري تجاهه بمشاعري تجاه تيار سياسي هو يؤيده.

في مرة كنت أركب المترو و قابلت صديق قديم من الكلية و بعدها بعدة محطات ركب محمود نفس العربة التي كنت فيها. عندها حمدت الله علي وجود هذا الصديق لأنه صديق غير مشترك بالتالي لن يكون هناك مجال للكلام في السياسة. إستمر لقاؤنا دقائق معدودة قبل نزول محمود في محطته، و لكنه حرص علي أن يخبرني أنه أغلق حسابه علي فيسبوك لكي لا أظن أنه قام بعمل (بلوك) لي. فيما بعد علمت أنه بعدها بشهور قام بإنشاء حساب آخر و لم يضيفني إليه و لم يحزنني هذا. لم أكن أرغب في المزيد من النقاشات معه هو بالذات دوناً عن باقي الإخوان.

في يوم الخميس التالي لمذبحة رابعة إستيقظت و تناولت التابلت و أنا في الفراش لأري الفيسبوك فوجدت خبراً نشره واحد من أصدقاء المدرسة عن إستشهاد محمود. تلقيت الخبر ببرود و أنا أعلم أني تدريجياً سأعاني منه مع الوقت. الصدمة قادمة، لا داعي للإستعجال. ما زاد الأمر سوءاً بالنسبة لي أن من نشر هذا الخبر كان ضابط شرطة. و مازلت أتذكر في أحد اللقاءات في رمضان في المدرسة في ثاني سنة في الكلية حين سخر أحد الزملاء من هذا الضابط فرد عليه زميل آخر قائلاً (كلها سنتين و يتخرج و يلمك إنت و محمود في بوكس واحد). لاحظ أن من سخر من الضابط لم يكن معروفاً بالتدين أو بالإنضمام لأي تيار سياسي بالتالي لا معني لأن يجمعه أحدهم بمحمود في نفس العبارة، و لكن العبارة تنقل الواقع بحذافيره حيث وظيفة ضابط الشرطة أن (يلم المتدينين في البوكس)، و ربما أخذ في طريقه من لا يروق له من باقي الناس.  لا أحد يتذكر هذه العبارة غالباً التي قيلت علي سبيل المزاح و لكني أتذكرها، ربما لأني كنت دائماً أشعر بحرج حين ألتقي أصدقائي من ضباط الشرطة أو من دخلوا هذه الكلية. كنت أري أنه لابد من مقاطعة مجتمعية لهؤلاء و لكني لم أجد في نفسي الشجاعة يوماً لأن أرفض يد صديق طفولة تمتد لي بالسلام في لقاء ما.

لهذا بعد قرائتي للخبر بساعة تقريباً دخلت لأعلق علي الخبر الذي نقله هذا الضابط و أستنكرت منه أن يصفه بالشهيد، فهو شخص كان في إعتصام إرهابي مسلح كما كان هذا الضابط بنفسه يكتب علي مدي شهر. لم يكن هذا وقت نزاعات و شجار و لكني لم أتمالك نفسي. بعدها بيوم دخل هذا الضابط و نشر صورة محمود علي صفحته و قال إنه واحد من المعتصمين في رابعة و قال إن (كلنا أخوة و لكن الناس يضحكون علينا). و كأن الأمر يحتاج لأن يموت لكل شخص أحد أحباؤه ليدرك هذه الحقيقة.

ذهبنا لمنزله حيث حضر جثمانه. هنا تبدأ مشاهد البؤس الحقيقي. الأصدقاء مجتمعون أسفل المنزل فأقترب منهم لأسأل عن حالة والدته و والده. بالطبع هي منهارة و كلما رأت واحد من أصدقاء المدرسة تزداد بكاءاً. لم أجرؤ علي أن أصعد لأسلم عليها، لا أريد أن تتذكرني و تتذكر معي طفولة إبنها. نزلت الأم إلي سيارة الأسعاف التي تحمل الجثمان مصرة علي أن تلقي نظرة علي وجهه لتتأكد أن من مات هو إبنها فعلاً و إلا فإنها ستعيش حياتها في إنتظار أن يدق عليها الباب علي حد قولها. بكاء و إنهيار و إرتياع من كمية الدم التي تغطيه. أجلسوها علي كرسي لعدة دقائق قبل أن تتذكر أنها لم تقبله. سندها الناس مرة أخري لتصعد للسيارة لتقبله مع الكثير من البكاء من كل الواقفين.

أمه هي ما أبكاني في هذا الأحداث كلها. كنت أقف متماسكاً و لكني لم أبكي إلا بسبب أمه و هي تودعه بعد الصلاة عليه مكررة (مع السلامة يا إبني)، و تضغط علي كلمة أبني. المرأة الراقية الشيك التي أذكرها من طفولتي حلت محلها أمرأة منهارة عيناها متورمتان من البكاء ولا تكاد تتعرف علينا نحن أصدقاؤه. والده الذي كنت أعده حازماً حل مكانه آخر، ينزل من السيارة متهالكاً يسلم علي الناس و يبكي منهاراً دون أن ينتبه لأنه يقف في منتصف الشارع المليء بالسيارات، و يكلم والدته منهاراً قائلاً لها (إبني هيدخلني الجنة).  المرة الثانية التي بكيت فيها كانت عند المقابر بعد دفنه. الأصدقاء يسلمون علي والده و والدته الذين كانوا يزدادون بكاءاً كلما تذكروا إسم واحد ممن يسلمون عليهم، و مرة أخري سلمت عليهما دون أن أعرفهما بنفسي، فقط أقول بصوت خفيض (البقاء لله). لم أجروء أن أقول لهما (أنا محمد عادل). لا أريد لأحدهما أن يتذكرني.

المشهد فيه الكثير من المشاعر و لكن يظل الشعور بالعجز هو المسيطر. أسأل عن زوجته فيخبرني شقيقها أنها في غيبوبة منذ يومين. أعطوها (دورميكام) لتغيب في غيبوبة لأنها كانت منهارة. دورميكام… تذكر إسم العقار، فربما إحتجته لتعطيه لشخص منهار لفقد من أحب و ما أكثرهم هذه الأيام، و ربما إحتاجه من يحبك يوماً ما لينسي أنه فقدك فتيار الدم لم ينته بعد و لا نعرف علي من الدور القادم.

أحاول أن أسأل أصدقاء المدرسة عن وسيلة للتواصل مع زوجته فيما بعد، فيخبرونني بأن منهم من يعرف شقيق زوجته و يمكنه أن يصل إليه في أي وقت. و لكن إن تواصلت معها يوماً فماذا سأقول لها؟ (مرحباً، أنا صديق طفولة زوجك. إن أردتي شيئاً فلا تحرميني من أن أقوم به). العبارة مبتذلة و سخيفة، فهي بالطبع تريد ما لا أستطيع أن أقدمه له، تريد أن تأنس لزوجها، تريد أن لا تكون أرملة و هي في شبابها، تريد لإبنتها التي تبلغ عامين تقريباً أباً و لن يمكنني أنا أو أي شخص في العالم أن يمنحها هذه الأشياء التي تريدها.

لو إتصلت بأمه ماذا أقول لها؟ أنا صديق طفولته إتصلت لتتذكري معي طفولة إبنك؟ هذا أكبر من إحتمالي.

هناك الشعور بالغضب، من الجيش و الشرطة و مرسي و قيادات الإخوان بل و من محمود نفسه. الرغبة في إنتقام من شخص لا أعرفه أطلق عليه النار. الغيظ من إخلاص محمود و تفانيه و سعيه للشهادة في سبيل قضية أختلف معه علي تعريفها، و الغضب من زملاء المدرسة الذين رفضوا أن يحضروا صلاة الجنازة رغم أنها بجوار بيتهم لأن سيحضرها إخوان! و ما يزيد الغضب تلك الفكرة التي مرت برأسي أن من قتله علاقته بمحمود علاقة (معقمة)، هو فقط ضغط الزناد و لم ير أين ذهبت رصاصته أو كيف أثرت علي حياة أهل و أحباب من قتله، ثم فكرت قليلاً و أدركت الحقيقة المؤسفة هي أنه غالباً كل هذا الحزن لا يمثل له فارقاً فمشاهد بكاء الأمهات و الزوجات تملأ النت لمن يتأثر أو يشعر، و هناك في الحياة من يمكنه أن يقتل بعد أن شاهد كل هذه المشاهد مرة و إثنين و ثلاثة. هناك أشخاص يعجز المرء عن تخيل العقاب المناسب لهم ولا يملك عقابهم بما يستحقون إلا الله.

و هناك الشعور بأن كل هذا خطأ. الطبيعي أن يدفن الإبن أمه و ليس العكس. الطبيعي أن فتاة عمرها عامين أو أقل تنشأ في رعاية و حنان أب. الطبيعي لشابة في العشرينات أن تأنس لزوجها لا أن تقضي العمر كله تتذكر أيامها معه و تحمل لوحدها عبء تربية إبنتها.

و هناك الذكريات المشتركة التافهة التي تكتسب قيمة كبري الآن. الآن يتواري تأييد محمود لمرسي و تبرز حقيقة أني واحد من القليلين الذين يعرفون إسمه السباعي. كان محمود يردده كثيراً في طفولتنا. محمود مصطفي مأمون حلمي عبد المطلب الطنطاوي عبد الله. إلتقينا مرة أثناء الكلية و ذكرت له أني مازلت أتذكر إسمه كاملاً و ضحكنا علي هذا الموضوع. ربما كانت زوجته نفسها لا تحفظ إسمه السباعي. معلومة تبدو تافهة و لكنها الآن تلح علي ذهني و يلح علي ذهني معها إصابته: رصاصة فوق الركبة و رصاصة أخري إخترقت صدره الأيمن و خرجت من كتفه الأيسر.  ضع المعلومتان بجوار بعضهما البعض و أخبرني بما تشعر به.

في رواية (كل شيء هاديء علي الجبهة الغربية) يموت البطل برصاص القناصة فتخرج الإذاعة تقول أن كل شيء هاديء علي الجبهة الغربية فلم يمت لنا سوي شخص واحد. هذا الشخص كان له أحباء و أصدقاء و أحلام و طموحات. اليوم صار محمود رقماً يضاف للأرقام، و الرقم لن يمكنه أن يعبر عن ذكريات طفولتي معه، الرقم لن يعبر عن حزن أبويه و أصدقاؤه و زوجته، الرقم لن يعبر عن إبنته التي صارت يتيمة في عمر سنتين، الرقم أعجز من أن يعبر عن أي شيء ذو قيمة.

في النهاية لا أجد سوي الدعاء بأن يجعلني الله و إياه ممن قال فيهم (و نزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً علي سرر متقابلين).

 

[caption id="" align=“aligncenter” width=“535”] أنا و محمود في الحضانة أنا و محمود في الحضانة[/caption]

 

[caption id="" align=“aligncenter” width=“576”] /%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A3%D9%85%D9%88%D9%86/images/7TtEy7y.jpg أنا و محمود في إبتدائي[/caption]

 

[caption id="" align=“aligncenter” width=“544”] /%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A3%D9%85%D9%88%D9%86/images/TGXmw0a.jpg أنا و محمود في إبتدائي[/caption]

 

[caption id="" align=“aligncenter” width=“540”] /%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A3%D9%85%D9%88%D9%86/images/pTgHgtD.jpg محمود عند إستشهاده[/caption]