محاكمات نورمبرج

قبل نهاية الحرب العالمية الثانية ظهرت في أذهان الحلفاء فكرة محاكمة قادة المحور إن تم القبض عليهم. كان ستالين يري أن يتم إعدام ما بين 50 الف إلي مائة الف ضابط و جندي من الجيش الألماني عقاباً لهم علي ما إقترفوه. في البداية سخر روزفلت من الأمر و قال لا داعي لإعدام 50 الف ضابط، يكفي أن نعدم 49 الفاً فقط. فيما بعد حين رأي كم الدمار الذي ألحقه النازييون بالإتحاد السوفيتي بدأ روزفلت يتقبل الفكرة.

تشرشل لم يتقبل فكرة قتل جندي كان يدافع عن بلاده، و لكنه كان يري أن يتم إعدام القادة فقط، نأخذهم إلي مكان معزول و نطلق عليهم النار جميعاً، مستخدماً أحد بنود القانون الإنجليزي الذي يسمح بقتل من يرتكبون جرائم الخيانة في حق بلادهم بدون محاكمة.

في سبتمبر 1944 فكر الأمريكيون في خطة لقتل قدرة ألمانيا علي بدء الحروب في المستقبل بعد سقوطها (لم تكن الحرب قد إنتهت و لكنها كانت قد قاربت علي الإنتهاء). الخطة وضعها وزير المالية الأمريكي هنري مورجانتو و عرفت بإسم خطة مورجانتو و هي خطة تستهدف السيطرة علي الأقاليم الألمانية التي تحتوي علي مواد خام و تحويل ألمانيا إلي دولة زراعية و رعوية و تدمير مصانعها. تسربت الخطة للصحفيين الذين تسببوا في تقليب الرأي العام الأمريكي و إستغلها جوبلز وزير الدعاية النازي في الهجوم الإعلامي علي الحلفاء.

حين إنتهت الحرب دعي الأمريكيون لمحاكمة القادة النازيين في محاكمة علنية. كان الأمريكيين يهدفون إلي أن تكون هذه المحاكمة محاكمة للفكر النازي و ليس مجرد محاكمة للقادة النازيين، أن يكون تدمير قدرة المانيا علي بدء حروب أخري من خلال تغيير تفكيير و أخلاق الشعب الألماني نفسه و ليس مجرد تدمير مصانعه لأن المصانع يمكن إعادة بنائها. عارض الإنجليز أن تكون المحاكمة علنية لأنها قد تتحول لوسيلة للنازيين لعرض فكرهم علي العالم و يستخدموا المحاكمة للهجوم علي الحلفاء أنفسهم. في النهاية إنتصر الرأي الأمريكي و تقرر إقامة المحاكمة في مدينة نورمبرج بألمانيا.

فكر الإنتقام

هنا نتوقف لنقول شيئاً. التفكير الأمريكي يختلف عن التفكير السوفيتي أو البريطاني في هذا الموقف حيث تعدي فكرة معاقبة النازيين لما هو أعمق. أحد العوامل الرئيسية وراء هذا التفكيير هو أن النازيين لم يسببوا الكثير من المتاعب للأمريكيين. كانت أمريكا بعيدة عن أوروبا و بالتالي لم تمتد إليها العسكرية النازية بسوء بعكس السوفييت و الإنجليز. هتلر قصف لندن بطائراته و صواريخه حتي أصدرت الحكومة قراراً بأن يسلم الآباء أبنائهم لمسئولي الحكومة في محطة السكك الحديدية لترحيلهم إلي الريف الإنجليزي لأنه لم يعد بوسع الحكومة ضمان سلامة أي شخص في العاصمة. كذلك الفظائع التي إرتكبها الألمان في الأراضي السوفيتية كانت كثيرة، لهذا كان السوفييت و الإنجليز يتعاملون و في نفوسهم قدر هائل من الغضب و الكره للألمان.

هذه ليست المرة الأولي التي يظهر فيها صفاء تفكير الأمريكيين من تأثير الكره الأعمي للألمان الذي شاب تفكير الإنجليز و السوفييت. في أثناء الحرب حين بدأت إنجلترا تسترد عافيتها عسكرياً كان الطيران الإنجليزي يقصف ألمانيا بأسلوب عرف بإسم قصف المساحة Area Bombing. أسلوب هذا القصف يتلخص في تسوية المانيا بالأرض. لا تختار أهدافاً إستراتيجية أو عسكرية، فقط غارات كثيرة بها عدد هائل من الطائرات كان يصل إلي 950 طائرة في الغارة الواحدة (من يشاهد هذا المنظر في الأفلام التسجيلية يري أن هذه الكمية من الطائرات حجبت الشمس بدون مبالغة) و كل ما تفعله هذه الطائرات هو أن تفرغ حمولتها من القنابل علي المانيا، لتهدم المنشآت المدنية و العسكرية علي حد سواء. بالطبع لم يتسبب هذا القصف في تأثير كبير في القدرة العسكرية الألمانية. علت أصوات الإحتجاج تطالب قائد الطيران البريطاني تشارلز بورتال بتغيير سياسته العسكرية إلا أنه كان مصراً بشدة و قد أعلن في أكثر من موضع أن هدف هذا الأسلوب هو تدمير القدرة النفسية للألمان قبل قدرتهم العسكرية، أنت ينتشر الخوف و الذعر بين الشعب الألماني بحيث لا يأمن فيهم شخص علي نفسه. بالطبع لم يحقق قصفه نتائج عسكرية هامة. الرجل كان ينتقم قبل أن يحقق أهدافاً إستراتيجية.

علي الجانب الآخر كان الطيران الأمريكي يركز علي الأهداف الإستراتيجية مثل حقول البترول في رومانيا و خطوط نقل البترول مما تسبب في قطع الإمدادات عن الجيش الألماني و كان هذا القصف عامل من عوامل سقوط ألمانيا. لم يكن لدي الأمريكيين ما يدفعهم للإنتقام من الألمان لذا كانوا يفكرون بقدر أكبر من المنطقية.

ربما يفكر المرء في العسكريين علي أنهم أشخاص لا يتأثرون بالعوامل الشخصية إلا أن البشر يظلون بشراً، لابد لهم من التأثر بما مر بهم من خبرات و تجارب، و لابد للمرء حين يري سلوك شخص ما أو يسمع رأيه في قضية من القضايا أن يضع في إعتباره خلفية هذا الشخص و الظروف التي مر بها ليكون هذا الرأي.

المحاكمات

محاكمات نورمبرج كانت ثلاث سلاسل من المحاكمات، إثنان لعدد من جنرالات و ضباط الجيش و الأطباء الذين كانوا يجرون تجارب علي المعتقلين و القضاة الذين دعموا النظام النازي، و واحدة هي الأهم و هي ما نتحدث عنه هنا كانت للقادة السياسيين لألمانيا و قادة الحزب النازي.

كانت المحاكمات في مدينة نورمبرج الألمانية في سجن يديره الجيش الأمريكي. القضاة كانوا من أربع دول (إنجلترا، أمريكا، الإتحاد السوفيتي، فرنسا) و كذلك كان ممثلوا الإدعاء (وكلاء النيابة) من الدول الأربعة. سمح الحلفاء للمتهمين بإختيار المحاميين الذين سيمثلونهم بل و قاموا بتعيين محاميين لبعض المتهمين. المحاكمات كانت علنية يحضرها الصحفيين و يتم تسجيلها و عرضها في دور السينما في أنحاء العالم (لم يكن التليفزيون قد ظهر وقتها).

كانت المحاكمات تضم 22 شخصاً من وزراء و قادة ألمان، أهمهم كان جيورنج نائب هتلر و قائد الطيران الألماني، دوينتز قائد البحرية،شبير وزير الصناعة و التعمير، والتر فونك وزير المالية، رودلف هيس نائب هتلر، كايتل وزير الحربية، ريبنتروب وزير الخارجية . كان الحلفاء قد فقدوا بالفعل فرصة محاكمة ثلاثة من أهم القادة الألمان هم هتلر و جوبلز وزير الدعاية و هملر قائد المخابرات و قائد قوات الحماية و هي القوات المسئولة عن أبشع الفظائع التي قام بها الألمان في الحرب. هتلر إنتحر و إختفت جثته، هملر إبتلع السم و عثر الحلفاء علي جثته و جوبلز حقن أبناءه الأربعة بالسم موهماً إياهم أنه دواء يساعدهم علي النوم ثم أطلق النار علي زوجته و علي نفسه بعدها.

كان أكثر ما يقلق الحلفاء هو جيورنج. الرجل كان نائب هتلر في أيامه الأخيرة و هو أحد أهم الشخصيات في الحزب النازي و تأثيره قوي علي باقي المتهمين، دعك من أنه قوي الشخصية و ماكر، ليس من السهل الإيقاع به. منذ الأيام الأولي للمحاكمات ظهر جيورنج متماسكاً و ساخراً. كان يجلس وسط باقي المتهمين يتهكم علي المحاكمات، قائلاً أن كل دولة ستتحدث عن التهم التي برعت هي في إرتكابها، لذا سيتحدث ممثل الإدعاء الفرنسي عن التحف الفنية و الأثار التي سرقها النازييون من الدول المحتلة، سيتحدث السوفيت عن المجازر و التعذيب، سيتحدث الإنجليز عن تهمة إحتلال دول أخري وبالطبع الأمريكييون هم من يدفعون تكاليف المحاكمات. ثم ينهي عباراته بقهقهة عالية تدفع باقي المتهميين للضحك علي الرغم من توتر الموقف و علمهم أن المحاكمات قد تفضي بهم للموت.

في مواجهة بين ممثل الإدعاء الأمريكي روبرت جاكسون و جيرنج حاول جاكسون أن يثبت أن جيورنج كان أحد من خططوا لإشعال الحرب منذ البداية و علل هذا بأن ألمانيا كانت تقوم بنقل مؤن و إمدادات قبل الحرب فرد جيورنج بأنها خطط نقل مواد غذائية و صناعية عادية من التي تقوم بها أي دولة. قال جاكسون أن هذه التحركات كانت سرية فرد عليه جيورنج بأنه لا يتذكر حتي الآن أنه قرأ عن خطط نقل المؤن الأمريكية في الصحف، في إشارة إلي أن مثل هذه التحركات تكون سرية في الكثير من الدول. في أثناء هذه المواجهة أيضاً إستشهد ببعض العبارات لروزفلت قال فيها أن الديمقراطية لم تنفع أوروبا حين جاءت بحكام ضعاف لا يقدرون علي حل مشكلات بلادهم. كانت هذه ضربة قوية ثانية. كان جيورنج هادئاً مسيطراً بعكس جاكسون الذي كان يفقد أعصابه بالتدريج حتي وصل في نهاية المواجهة إلي نوبة من الصراخ و التلويح بذراعيه و إتهم جيورنج بأنه بأسلوبه هذا يعيق سير المحاكمات، فما كان من جيورنج إلا أن إنتزع السماعة التي تنقل له الترجمة ووضعها أمامه بكل هدوء بما يعني أني لن أستمع للمزيد من هراءك.

إنتهت هذه المواجهة و في خلال الأيام التالية توالت الخطابات التي أرسلها المعجبون لجيورنج يوؤيدون فيها ما فعله في المحاكمة.

كان هذا هو ما قصده الإنجليز منذ البداية حين عارضوا إقامة محاكمة علنية، أن يستغلها النازيون لتدعيم موقفهم و الدفاع عن الفكر النازي. الحلفاء ليسوا حفنة من الملائكة و لهم تجاوزاتهم و أفعالهم الإستعمارية و يمكن لأي شخص أن يستغلها ليقلب عليهم المنضدة و هو ما حدث الآن.

المواجهة الثانية كانت بين ممثل الإدعاء البريطاني السير ماكسويل فايف و جيورنج. كان الإنجليز عموماً أكثر خبرة بالقانون و المحاكم من الأمريكيين الذين لم تكن لهم عراقة الإنجليز و ماضيهم الثقافي بشكل عام. في هذه المواجهة عرض ماكسويل فايف أفلام تم تصويرها من داخل المعتقلات النازية تظهر أدوات التعذيب و المقابر الجماعية التي تم إكتشافها و الكم الهائل من الجثث الذي قتله النازيون. لم يكن العالم يعرف الكثير عن معسكرات الإعتقال النازية و كانت هذه أحد النقط القوية التي دعي الإنجليز للعب عليها و رفضها جاكسون بسبب قلة خبرته ظناً منه أن إثبات أن جيورنج تآمر لإشعال الحرب سيكون أكثر تأثيراً و أسهل في تحقيقه. في أثناء عرض الأفلام تعالت أصوات البكاء من بعض المتهمين و سكت جيورنج و فقد الكثير من ثقته بنفسه و إنتهت هذه المواجهة في صالح الحلفاء و أثبت الإنجليز فيها براعتهم و خبرتهم في المحاكمات و القانون.

و لكن المشكلة مازالت قائمة، جيورنج خبيث و تأثيره علي من حوله قوي، يزيد من ثقتهم بأنفسهم و يدفعهم للدفاع عن أنفسهم و عن هتلر و الفكر النازي ككل و يمثل عقبة كبيرة أمام تحقيق هدف المحاكمات و هو محاكمة الفكر النازي.

النازي الذي إعترف

هنا ظهر شبير، وزير الصناعة و التعمير في المشهد. قرر شبير أنه مسئول عن ما قام به و أنهم جميعاً كقادة نازيين يتحملون جانباً من المسئولية عن ما قام به هتلر و الحزب النازي. جن جنون جيورنج و هاجم شبير و تسبب في أن باقي المتهمين أخذوا جانباً منه فلم يعودوا يتحدثون معه حين يتناولون الطعام سوياً أو حين يتريضون في فناء السجن.

كان شبير يقدم للحلفاء ما يحلمون به، وسيلة لضرب ثقة جيورنج بنفسه و ضرب صورته في الإعلام و ضرب صورة الفكر النازي ككل.

الطبيب النفسي

من ضمن النقاط المثيرة للإهتمام في هذه المحاكمات أن الأمريكيين قاموا بتعيين طبيبين نفسيين للتعامل مع القادة النازيين. كان الهدف من وجودهم هو محاولة دفع النازيين للإعتراف و منعهم من الإنتحار بالإضافة لتقييم الحالة العقلية لرودلف هيس الذي كان يدعي إصابته بفقدان ذاكرة.

أحد هذين الطبيبين هو جوستاف جيلبرت. كان جيلبرت يقابل المتهمين يومياً تقريباً في زنزاناتهم (لم تكن هذه المقابلات تعتبر جزء من المحاكمات) و يجلس معهم ليتحدثوا أو يعرضهم لبعض الإختبارات النفسية مثل إختبار رورشاخ (إختبار بقع الحبر). كان جيبلبرت يدون يوميات لقاؤه بالنازيين طوال فترة المحاكمات و قام بنشر جلساته معهم في كتاب فائق الشهرة. المثير في هذا الكتاب أن هذه إعترافات النازيين و قد فقدوا قوتهم و مكانتهم و صار شبح الموت يخيم علي رؤوسهم، و لكني أري أن الناس تبالغ في أهمية ما جاء في هذة الإعترافات. البعض يدعي أن هذه الإعترافات جائت بعد أن إكتسب جيلبرت ثقة النازيين إلا أني أشك في هذا. حين تحدث طبيباً نفسياً أمريكياً و أنت تعرف أنه في نفس الوقت ضابط في الجيش الأمريكي و أن الأمريكيين هم من يحاكمك الآن في محاكمة قد ينتج عنها إعدامك فإن حديثك لن يكون بالغ المصداقية و ستحاول أن تقنع هذا الطبيب ببرائتك. بالإضافة إلي هذا فإن جيلبرت أخفي عن النازيين حقيقة أنه يهودي و لم يعلنها إلا بعد فترة طويلة، و لم ينتج عن هذه الحقيقة أي رفض أو إستهجان من قبل النازيين و هو شيء غير منطقي. لابد أن يخفوا رأيهم عن الطبيب اليهودي و لابد أن لا يعلنوا عن آراؤهم بمصداقية كاملة.

إلا أنه علي الرغم من هذا فإن حديث جيبلرت مع النازيين كان يحتوي علي بعض الأشياء المثيرة، ربما كان أشهرها هو ذلك الحوار التاريخي بين جيورنج و جيلبرت عن إشعال الحروب:

جيورنج: “بالطبع الناس لا يحبون الحرب. ما الذي يدفع ساذجاً فقيراً يعمل في مزرعة لأن يخاطر بحياته في حرب أفضل ما يمكن أن يحدث له فيها هو أن يعود إلي مزرعته قطعة واحدة؟

الطبيعي أن الناس العاديين لا يريدون الحرب، لا في الإتحاد السوفيتي و لا إنجلترا و لا أمريكا و لا ألمانيا. هذا مفهوم. و لكن في النهاية فإن القادة هم من يحدد السياسة و دائماً يسهل علي القادة جر الناس للحرب، سواء كان النظام ديمقراطياً أو فاشياً ديكتاتورياً أو برلمانياً أو شيوعياً ديكتاتورياً. "

جيلبرت:” هناك فارق هو أنه في النظام الديمقراطي فإن الناس لهم رأي و صوت فيما يتخذ من قرارات من خلال الأشخاص الذين إنتخبوهم و في الولايات المتحدة الكونجرس هو الذي يعلن الحرب".

جيورنج:“لهم رأي أو ليس لهم رأي، يمكنك أن تجتذب الناس دائماً لما يدعو إليه القادة. كل ما عليك أن تفعله هو أن تخبرهم أنه تم الهجوم عليهم و تتهم محبي السلام بأنهم يفتقدون للوطنية و يعرضون البلاد للخطر. هكذا تسير الأمور في أي دولة في العالم”.

علي الرغم من أن جيورنج كان لص آثار و مدمناً للمورفين إلا أنك لا يمكنك أن تتهمه بالبلاهة أو عدم فهم السياسة. الرجل في عبارة واحدة جرد الكثير من الأفعال السياسية من ما يحيط بها من هراء و تحليلات سياسية لا أهمية لها و خرج بالحقيقة التي مازالت سليمة حتي يومنا هذا.

جيلبرت و شبير و جيورنج

حين بدأ الحلفاء يلاحظون شبير و رغبته في الإعتراف و تأُثير جيورنج علي باقي المتهمين تدخل جيلبرت في الأمر. أصدر جيلبرت أوامره بأن يتناول جيورنج طعامه وحده و أن يجلس عدد من المتهمين - أولئك الذين لمس فيهم ضعفاً - علي مائدة واحدة مع شبير في أثناء تناول الوجبات. تدريجياً قل تأثير جيورنج علي المتهمين و زاد تأثير شبير عليهم و كانت هذه أحد العوامل الهامة في تراخي مقاومة باقي المتهمين و في خروج المحاكمة كما أرادها الأمريكيين في البداية كمحاكمة للفكر النازي و ليست مجرد محاكمة للقادة النازيين.

في النهاية نال أربعة عشر متهماً أحكاماً بالإعدام (من ضمنهم جيورنج) و نال ثلاثة أشخاص أحكام بالبراءة و نال الباقيين أحكاماً بالسجن لسنوات مختلفة. نال شبير حكماً بالسجن لعشرين عاماً يري الكثيرين أنه نالها فقط لانه سهل الأمر للحلفاء، حيث أن هناك من إرتكب جرائم أقل منه و نال حكماً بالإعدام. البعض يري أنه كان ماكراً فهم الأمر و حاول أن ينقذ عنقه من البداية. بعد خروجه من السجن في السبعينات صار شبير من المشاهير الذين يذهب الناس لطلب توقيعاتهم علي الأوتوجرافات، حيث صار شهيراً بأنه النازي الوحيد الذي إعتذر عن ما فعله.

عن الشعوب و الأفكار

أهم ما في هذه المحاكمات في رأيي هو فكرة محاربة الفكر نفسه في عقلية الناس. علي الرغم من تاريخهم الإستعماري الطويل فإن الإنجليز لم ينجحوا في محو مباديء الشعوب التي إحتلوها بعكس الأمريكيين الذي إستمروا في نفس النهج بكفاءة أكبر. ربما ساعد علي هذا تطور وسائل الإعلام و السينما الأمريكية و إنتشارها في العالم كله، و لكن المهم أن الفكرة قائمة في أذهانهم و يعملون علي تحقيقها. حين تهدم شعباً فإن عليك أن تهدم أفكاره قبل مصانعه، و قبل أن تبني شعباً فإن عليك أن تبني أفكاره أولاً، و هي أحد أهم النقاط التي غابت عن الناصريين و عن كثير ممن ينظرون للفترة الناصرية.

تميزت الفترة الناصرية بالإنجازات المادية (إنشاء السد العالي، المصانع، الخ) و هو ما دفع نجيب محفوظ في رواية الكرنك للتعجب من أن الثورة التي تنشر القمع و التعذيب قادرة علي إقامة هذه الإنجازات المادية الهامة. و لكن الجانب النفسي المتعلق ببناء الشعب نفسياً و فكرياً كان غائباً عن تفكير القائمين علي الثورة. في الوقت الذي كانت الثورة تحقق فيها إنجازات مادية كانت بتحكم ضباطها و المعتقلات والنظام القمعي الغير مسبوق الذي أنشئوه يغرسون في النفسية المصرية فكراً جديداً هو فكر (متتكلمش في السياسة) و فكر أن النفاق عامل مهم في إرتقاء المناصب، بعض النظر عن كفاءتك و قدراتك و تفانيك في العمل فإن رضا السلطة عنك هو العامل الأول في وصولك أو فشلك. أنشئت الثورة المصانع و لكنها دمرت تفكير و نفسية من يديرون هذه المصانع مما تسبب في إنحدارها تدريجياً. كان من أهداف الثورة إنشاء جيش قوي فلاقي هذا الجيش هزيمة تاريخية في 1967 بسبب فساد القائمين علي هذا الجيش.

نفس الشيء يمكن أن يقال عن الإتحاد السوفيتي. لا أحد يمكنه أن ينكر أن الإتحاد السوفيتي وصل لدرجة عالية من التقدم العلمي و العسكري و لكنه إنهار في النهاية. لم يبني السوفيت نفسية المواطن الذي يحافظ علي هذه الإنجازات و يصونها و تدريجياً إنحدرت الدولة و إنتشر فيها الفساد الذي مازالت أثاره باقية حتي اليوم.

بناء نفسية الشعوب و أخلاقها هو الجانب الأهم. الإنجازات المادية لابد لها من شعب يحافظ عليها بتفكيره و أخلاقه و إلا فلا أهمية لها.