لقد أوتيت جدلاً

عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي جاء مدرس الدراسات الاجتماعية للفصل ليأخذني لأشارك في مناظرة.

الفكرة أنه سيكون فريقين يقومون بإجراء مناظرة حول (الهجرة من الريف إلى المدن) وسيتم تسجيل المناظرة على شريط كاسيت وإرسالها للإدارة التعليمية في إطار مسابقة ما.

لا أتذكر بالضبط الفريق الذي انضممت إليه، هل هو الفريق المؤيد أم المعارض، ولا أتذكر إن كنت اخترت بنفسي أم قام المدرس بالاختيار، ما أتذكره جيداً أني كنت كاسحاً.

كنت الوحيد تقريباً الذي يتكلم من فريقي. الفريق المنافس كان أكبر مني بسنة (الصف الخامس الابتدائي) و هو فارق محترم في السنين الأولي من التعليم، إلا أن الحجج التي كنت أقدمها كانت باترة ساحقة. المدرس كان يوقف التسجيل كل بضعة دقائق ليخبر الفريق المنافس ببعض الردود التي يمكنهم أن يردوا على بها ويحمسهم قائلاً عبارات من نوعية (هو محدش فيكم عارف يرد علي الواد ده). بالنسبة له كان يهمه أن تخرج المناظرة متزنة إلى حد ما وليس عزفاً منفرداً كما حدث.

أتذكر جيداً شعوري أني يمكنني أن أكون في أي من الفريقين وفي الحالتين سأقدم الحجج التي تدحض الآخرين. بعض الحجج التي قدمتها كنت أعرف الرد عليها إلا أني كنت واثق أن من أمامي لا يعرفون الرد عليها، وكنت مستمتع بهذا في فرح طفولي بتفوقي بغض النظر عن أي اعتبارات أخري.

لا أعرف ما حدث فيما بعد عندما أرسلنا تسجيل المناظرة للإدارة التعليمية. غالباً لم نفز بسبب المهزلة التي حدثت.

فيما بعد عندما كبرت، وكلما تذكرت هذا الموقف الطفولي، تذكرت كعب بن مالك رضي الله عنه، أحد الثلاثة الذين خلفوا، والذي قال للرسول عليه الصلاة والسلام (والله لو بين يدي أحد غيرك جلست، لخرجت من سخطه على بعذر، لقد أوتيت جدلا). تدريجياً تعودت ألا أناقش شخص بحجة لا يستطيع أن يرد عليها إن كنت أنا أستطيع أن أرد عليها.

عندما بدأت أتعلم البرمجة اندهشت عندما وجدت أن هناك مهندسين يعملون على التسويق للغات أو تقنيات برمجة معينة. هؤلاء يسمون Evangelists وهي نفس الكلمة التي تعني مبشر مسيحي، إلا أني أعتقد أن الترجمة الأصوب لها هنا قد تكون شيئاً آخر غير كلمة (مبشر).

كان سبب اندهاشي أن أي لغة برمجة أو تقنية عليها خلاف بين الناس. يمكن أن تعجبك عدة نقاط في لغة معينة ولكن هناك نقاط أخري لا تروق لك بالتأكيد. من يروج لتقنية برمجة إما أنه خاوي تقنياً للدرجة التي لم ير بسببها أي مشكلة فيما يروج له أو هو معدوم الضمير.

ولكن لدهشتي وجدت Evanglist لأحد تقنيات البرمجة في مايكروسوفت في أمريكا يهاجم هذه التقنية في أكثر من نقطة هجوماً بدا لي وللآخرين متحاملاً بشدة، إلا أني أعجبت بفكرة أنه على الرغم من أنه يفترض فيه التسويق لهذه التقنية إلا أن هذا لم يمنعه من قول رأيه التقني بصراحة. طبعاً في مصر الوضع مختلف. في مايكروسوفت مصر كان ال Evanglist لنفس تقنية البرمجة سطحي المعرفة بها فلا يستطيع أن يجيب عن أسئلة عميقة بعض الشيء عن التكنولوجيا التي يفترض فيه التسويق لها، ولا ينقصه سوي الموسيقي ومصمم رقصات ليكون ما يفعله في المؤتمرات إعلاناً لا يختلف عن إعلانات السمن والشاي، حتى أن المبرمجين في مصر تدريجياً كلما رأوا هذا الشخص يدخل لقاعة أحد مؤتمرات البرمجة كانت القاعة تضج بعبارات الاستهجان ثم تري مسيرات بالعشرات في اتجاه أبواب الخروج وفي غضون دقائق تصير القاعة شبه خاوية.

عندما قامت الثورة و تكونت أحزاب ظهر منصب المتحدث الرسمي كثيراً في الأحزاب و الجماعات. الطبيعي أن المتحدث الرسمي هو الشخص الوحيد الذي تخرج من خلاله تصريحات بموقف الحزب، إلا أن الأمر في مصر تحول لشخص يحل ضيفاَ دائماً في اللقاءات التليفزيونية والجماهيرية ليروج لموقف الحزب. هناك هوة ساحق تفصل بين أن تعلن أن الحزب اجتمع وقرر كذا وكذا، وبين أن تدافع عن قرار الحزب وتبرر له. أي شخص يمتلك الحد الأدنى من الذكاء واحترام الذات لابد أن تأتي عليه لحظات ومواقف يختلف فيها مع الرأي والقرار الذي استقر عليه حزبه أو جماعته، بالتالي لا معني لأن يدافع المرء باستمرار عن كل قضايا الحزب أو الجماعة.

هؤلاء أشخاص يمارسون ما قمت أنا بممارسته عندما كنت طفلاً، الدفاع عن فكرة هو غير مؤمن بها لأنه يمكنه أن يدحض من أمامه بحجج هو نفسه لا يقتنع ببعضها.

فكرة الإسلاميين في مصر عن السياسة عموماً ليست ممارستها بأسلوب مختلف عن الآخرين بسبب قناعات أخلاقية و مرجعيات مختلفة، بل ممارسة نفس ما يفعله الآخرون بكفاءة أعلي، و لم تكن نقطة (المتحدث الرسمي) إستثناءاً.

الإخوان المسلمون كان عندهم محمود غزلان كمتحدث رسمي ثم أعلنوا أنه لم يعد متحدثاً رسمياً و تم تعيين ثلاثة شباب مرة واحدة كمتحدثين رسميين. خرج بعدها محمود غزلان ليعلن أنه مازال متحدثاً رسمياً ولم يعلنه أحد بأنه لم يعد يشغل المنصب، ولم يكلف أحد من قيادات الإخوان نفسه ببيان موقف محمود غزلان، غالباً مراعاة لتوازنات قوي داخل الجماعة وتفادياً لصدامات داخلية.

وجود ثلاثة متحدثين رسميين (وواحد لا يعرف أحدهم دوره بالتحديد) هو تأكيد صارخ على الفارق بين ما يفترض في المنصب وما تحول إليه المنصب. أنت لا تحتاج ثلاثة أشخاص دفعة واحدة ليكونوا (المصدر الوحيد) الذي يخرج من خلاله موقف الحزب أو الجماعة. بالفعل ظهر واضحاً وجلياً تواجد متزايد للمتحدثين الرسميين في برامج الفضائيات والندوات والمؤتمرات كمبررين و مسوقين للحزب و الجماعة.

كالمعتاد ينتقد الإخوان اليوم نادر بكار المتحدث رسمي لحزب النور وينتقدون تصريحاته، دون أن يمتد تفكير أحدهم لأن سبب المشكلة الرئيسي أعمق كثيراً من التصريحات. المشكلة في المنصب نفسه وفي الدور الذي لا يمكن لشخص يمتلك كلاً من الذكاء والضمير أن يلعبه. لا يمكن لشخص يجتمع فيه الذكاء والضمير أن يقبل بأن يكون دوره هو الدفاع المستمر عن شخص أو حزب أو جماعة في كل المواقف وفي كل التصرفات، هذا تناقض شبيه بعبارة عادل إمام (الراقصة الموقرة). النموذج الفكري الذي خرج منه منصب (متحدث رسمي) للإخوان -متحدثون رسميون إن شئت الدقة -لا يختلف عن النموذج الفكري الذي خرج منه منصب (متحدث رسمي) لحزب النور. لا يمكن لنادر بكار أو محمود غزلان أو أي من المتحدثين الرسميين الثلاثة للإخوان أن يجتمع فيهم الذكاء والضمير سوياً.

المتحدثين الرسميين للأحزاب في مصر هم الأشخاص الذين (أوتوا جدلاً) إلا أنهم لم يفعلوا ككعب بن مالك بل استخدموا هذا الجدل فقط لإثبات أنهم و أحزابهم و جماعاتهم علي صواب.