فرنسا و المقاطعة و هذه الأشياء التي تعرفها

غالباً أنت تعرف أن هناك حملة من فرنسا تنادي بحرية السخريةمن الدين و الرموز الدينية و تحديداً الرسول عليه الصلاة و السلام في مقابل حملة من قطع الرقاب يقوم بها بعض المسلمين في فرنسا لمن تطوله يدهم و في المنتصف هناك حملة من المقاطعة للمنتجات الفرنسية. هذه بعض الخواطر المرسلة التي أثارتها كل هذه الأحداث.

ما هي المنتجات الفرنسية؟

أحد ردود الأفعال علي ما حدث هو دعوة المسلمين لمقاطعة المنتجات الفرنسية. لكن لماذا؟ لأن الفرنسيين يسيئون للرسول عليه الصلاة و السلام. الفرنسيين كلهم أم الساسة و المثقفين فحسب؟
عادة ما ينتقد المسلمون فكرة الحدود الجغرافية، الحدود تراب و هي أشياء رسمها المستعمر و المسلمون جسد واحد الخ. عظيم. لكن عندما حاول المسلمون إبداء إعتراضهم علي سياسة الدولة الفرنسية فإنهم قرروا أن يقاطعوا أي شركة يقع مقرها الرئيسي في الحدود التي يحكمها الساسة الفرنسيين.

البيزنس في المعتاد، خاصة في الشركات الكبيرة المطروحة في البورصة يبحث عن المكسب. الشركة الفرنسية قد يحمل أسهمها مواطن أمريكي بمنتهي السهولة. البورصة في مصر للكبار فقط لكن في الغرب هي لكل الناس، صغيرهم و كبيرهم يمتلك أسهم في شركات حتي لو بشكل غير مباشر من خلال صناديق التأمين و المعاشات التي يدفع المواطن رسوم فيها و تستثمر هذه الصناديق أموالها في البورصة لتنمو و تمثل دخل للمواطن عندما يخرج للمعاش. المواطن له القدرة علي إختيار توجيه مدخراته لهذا الإتجاه من الأستثمار أو ذاك بدرجات مختلفة من الحرية بحسب صندوق المعاش الذي يشترك فيه.

بالتالي الشركة يتحكم فيها حملة الأسهم. الأشخاص ذوي النسبة الأكبر من الأسهم يحددون سياسية الشركة. بما أن عدد حملة الأسهم كبير فإن إحتمال إتفاقهم علي أي إتجاه أخلاقي أو ديني من أي نوع هو شبه منعدم. هم يتفقون فيما بينهم علي كسب المزيد من المال، ربما علي السياسة الإدارية للشركة، الشكل الإقتصادي، الإلتزام بقوانين الدول التي تمارس الشركة فيها نشاطها، الخ. لكن من المستحيل أن يتفق كل هؤلاء علي إتجاه أخلاقي أو فكري من أي نوع. هذه أزمة عامة للبشرية اليوم لكني أناقشها في السياق الفرنسي الآن فقط.

بالتالي الشركات الفرنسية،مثلها مثل أي شركة أخري، لا ترغب في الدفاع عن نسخة الليبرالية الفرنسية التي ينادي بها ماكرون و في نفس الوقت لا تريد أن تعاديها ولا أن تعادي المسلمين. هي فقط تهدف لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح من كل هؤلاء، لا أكثر ولا أقل.

صديق أردني كتب علي الفيسبوك أن شركة توتال في الأردن أرسلت له رسالة SMS تهنئه فيها بالمولد النبوي! هذا مثال شديد الوضوح علي ما قلته. هي فقط ترغب في كسب المال ولا تهتم بالأيديولوجيا التي لا تمس أرباحها.

ترامب أدرك هذا حين بدأ في معاداة الشركات الأمريكية التي تصنع منتجاتها خارج أمريكا. فورد رمز أمريكي إلا أن هذا لا يخدع ترامب، فعلياً الشركة أغلقت كثير من مصانعها في أمريكا و صارت تصنع سياراتها في المكسيك و كندا و دول أخري. لا يوجد معني لكون الشركة (أمريكية) اليوم في ظل نظام إقتصادي فيها هذا الكم المرعب من السيولة، سيولة التملك و سيولة حركة المال بين الدول.

بالمثل حين أراد ترامب أن يقتل هواوي لم يخرج ليمنع الشركات الأمريكية من التعامل مع هواوي، بل أمر (الشركات التي ترغب في أن يكون لها بيزنس في أمريكا) بمقاطعة هواوي. الفرق هنا هو أن كلمة الشركات الأمريكية هي كلمة لا معني لها، و ترامب ليس له تحكم فيما تفعله جوجل في أوروبا مثلا. ترامب سيمنع أي شركة بغض النظر عن جنسيتها من أن يكون لها بيزنس داخل أمريكا ما دامت تتعامل مع هواوي. بالطبع لا أحد يستطيع أن يخسر السوق الأمريكي و الكفاءات الأمريكية، بالتالي إمتنع الكل، أمريكي و غير أمريكي عن التعامل مع هواوي.

بالنسبةللناس التي تدعو لمقاطعة بضائع الشركات الفرنسية: ما هو تعريف البضائع الفرنسية؟ هل هذه هي بضائع تصب أرباحها في جيب رجل أعمال فرنسي (بمعني أن مالكي الأسهم معظمهم أو أصحاب أكبر كمية من الأسهم فرنسيين؟ هل هي بضائع تم تصنيعها في فرنسا بالتالي مقاطعتها تضر العامل الفرنسي؟ بيجو مثلاً لها مصانع في أسبانيا، سلوفاكيا، الأرجنتين، الجزائر و طبعاً في فرنسا. للأسف الإجابة التي إختارها الناس جميعاً هي الإجابة السهلة (الخاطئة في نفس الوقت) بأنها الشركة التي يكون مقرها الرئيسي فرنسا.

أنا أعمل في شركة عملاقة حجمها عشرات المليارات من الدولارات مقرها الرئيسي هولندا و لها مكاتب في كل دول العالم تقريباً. الشركة مملوكة بالكامل لشركة أخري مقرها الرئيسي أمريكا. جزء من مكافئتي السنوية،مثل باقي العاملين في الشركة، هو بعض الأسهم في هذه الشركة. إن قمت أنت بمقاطعة منتجات شركتي فمن الذي يتضرر: هولندا، أم أمريكا أم أنا كأحد حملة الأسهم؟

تعريف البضائع الفرنسية علي أنها تلك الصادرة من شركة مقرها الرئيسي فرنسا هو إختزال مخل للأمور. الأمور معقدة للغاية للأسف.

علاقة المال بالسياسة

الصورة النمطية القديمة هي أن المال يلعب مع السياسة. الساسة يضعون سياسات ترضي أصحاب المال و أصحاب المال يتحكمون في الإعلام و الناس ليأتوا بساسة علي مزاجهم. المشكلة أن هذا النموذج صار قديماً. جيف بيزوس أغني رجل في العالم في عداء مع ترامب. هو لم يستطع أن يمنع ترامب من الوصول للسلطة رغم أنه يمتلك الواشنطن بوست و عموماً لم يستطع الكثير من رجال الأعمال من منع ترامب من الوصول. CNN ، المثال الأول في التلاعب و التضليل الإعلامي الأمريكي و التحكم في الجماهير و ما إلي ذلك كانت و مازلت تعادي ترامب و مع ذلك نجح في الوصول للحكم.

عندما خرج ترامب بقرار منع غير الأمريكيين من دخول أمريكا إن كانوا من جنسيات معينة كان هذا قراراً ضد مصلحة شركات التكنولوجيا التي تضم الكثير من الكفاءات الأجنبية من هذه الجنسيات. جوجل كانت في حيرة شديدة: هل ينزلوا بوزنهم أم ينتظروا حتي تذهب هذه العاصفة إلي حال سبيلها من نفسها. كان القرار النهائي هو السكوت، لم تعلق جوجل علي الأمر تفادياً للمشاكل. كما قلنا المال ليس لديه مبدأ أخلاقي و التقييم العام قائم علي المكسب و تفادي المشاكل في المقام الأول، لكن المشكلة أن الموظفين لم يسكتوا و خرجوا بمظاهرات حاشدة في المقر الرئيسي للشركة في وادي السيليكون إعتراضاً علي ترامب و علي إدارة جوجل التي لم تتدخل و تعقدت الأمور بالنسبة لإدراة جوجل!

https://techcrunch.com/wp-content/uploads/2017/01/img_5128.jpg?w=1390&crop=1

المظاهرات في مقر جوجل بكاليفورنيا. صورة من techcrunch.

بالتالي الصورة النمطية القديمة عن المال الذي يحرك السياسيين لم تعد قائمة. ناعوم تشومسكي له كتاب قديم صدر في الثمانينات شديدة الشهرة إسمه (صناعة الإجماع: الإقتصاد السياسي للإعلام Manufacturing consent: the political economy of mass media)، مصطلح صناعة الإجماع صار مصطلح أكاديمي رسمي ساحق الشهرة بعد هذا الكتاب. كما هو واضح من الإسم فالفكرة أن أصحاب المال يقودون السياسة عن طريق تصنيع الإجماع وسط الناس بتحكمهم في وسائل الإعلام. الصورة مرعبة لكن الأكثر إثارة للرعب أن هذه المنظومة لم تعد تعمل. ترامب جاء علي الرغم من كل هذه المنظومة المركبة من المال و الإعلام و التلاعب و ما إلي ذلك، و ترامب ليس الشخص النظيف الذي جاء برغم المنظومة القذرة بل هو الشخص الأكثر قذارة مما يمكن لهذه المنظومة أن تتخيل، و الذي لا يحق مصالح المنظومة ولا مصالح أي أحد إطلاقاً، الجنون المطلق الذي حتي لا يفسره المال و المصالح الإقتصادية. الناس الآن تتحسر علي أيام صناعة الإجماع.

و ترامب ليس إستثناءاً، الحركات اليمينية حول العالم كلها تتشابه، كلها عكس ما تريده الشركات متعددة الجنسيات. المال عموماً لا يحب المشاكل ولا يحب الأيديولوجيات، لاحظ أن إنهيار الإتحاد السوفيتي و إنتصار النموذج الرأسمالي و العولمة و الشركات متعددة الجنسيات خرجت للوجود بجوار فكرة (نهاية التاريخ). لم يعد هناك أيديولوجيات أو قيم عليا من أي نوع، نعمل و نكسب مال ننفقه، فقط لا غير، لا أفكار عظيمة ولا أيدولوجيات كبري من أي نوع، بما في ذلك أيديولوجيات عداء الإسلام التنويرية تلك.

هولندا بلد متقبل للآخرين، يسمح بالمخدرات الخفيفة، أول بلد أعترف بزواج الشواذ في العالم، تقنين الدعارة، الخ، يتكلمون الإنجليزية مع الغرباء بدون أي مشاكل بعكس الألمان مثلاً الذين يصرون علي الكلام بالألمانية دون غيرها (بعض من يتعلموا الهولندية أحياناً يرتدوا دبوس مكتوب عليه أنا أحاول تعلم الهولندية ساعدني من فضلك، لأن الهولنديين عند أول بادرة للتعثر في الكلام بالهولندية يستخدمون الإنجليزية لتسهيل الأمر عليك!) الحزب المتطرف فيه يعاني معاناة عنيفة في الإنتخابات و مقاعده في الدولة و الإتحاد الأوروبي في تناقص صارخ، من يريد أن يفعل شيئاً يفعله و لا نريد الكثير من الصداع، الخ. أحد أسباب هذا أن الهولنديين شعب تجار علي مر التاريخ. هم أول من إخترعوا فكرة الأسهم، قوافلهم التجارية أشهر من نار علي علم، هم من جلب التوابل للقارة، هم من جلب الشاي للإنجليز، هم من أدخلوا الإنجليز الهند، الخ. التجار لا يحبون المشاكل و يحبون أن يقبلوا الكل لأن هذا يجعل سوقهم أكبر.

و ما ينطبق علي الشعوب ينطبق علي الشركات بدرجة أكبر و من هنا يمكنك أن تفهم رسالة توتال في الأردن. ماكرون مستفيد من إشعال الأمور، هو سياسي و هذا هو ما يحدد السياسة اليمينية اليوم. المال لا يهتم ولا يريد هذه المشاكل و ربما لا يريد ماكرون شخصياً.

بالتالي حين أري دعوات المقاطعة اليوم للشركات الفرنسية فإن هذا بالنسبة لي إما أنه عدم معرفة بالوضع اليوم و كيف تغيرت علاقة المال و السياسة عن ما كانت عليه من 20 أو 30 سنة، أو هو أسلوب (مقدرش علي الحمار فقدر علي البردعة). مقاطعة الشركات الفرنسية لن تؤثر علي الساسة الفرنسيين.

نحن الآن في مرحلة قطع الرؤوس. كل ما نقوله و ما نفعله ليس له قيمة

صديق لي كان له زميل إسرائيلي في نفس الفريق الذي يعمل به. الإسرائيلي أخبره أنه يساري، و بالتالي فهو يري أن للفلسطينيين حقوقاً. المشكلة أن هناك مطحنة دائمة: يقصف الإسرائيليين الفلسطيينين، عندها يقوم الفلسطيينين بأعمال عنف ضد الإسرائيليين (و هذا منطقي و مفهوم علي حسب رأيه) عندها يتحمس اليمين الإسرائيلي، فيحدث المزيد من القصف و هكذا.

بالتالي شعر هذا الشاب أن أمثاله لا صوت لهم في هذا المجتمع. لابد أن تهدأ الأمور قليلاً حتي يبدأ الناس في الإستماع لأي كلام متعقل من أي نوع لكن للأسف لا مجال لهذا الآن. أمثاله لا صوت لهم ولا يستمع لهم أحد و كان هذا من عوامل قراره بأن يترك اسرائيل. يذكرني هذا بآرون بريجمان، الرجل الذي كتب الكتاب الشهير عن أشرف مروان: كان إسرائيلي و رأي أن إسرائيل تنتهك حقوق الفلسطينين فقرر الخروج لإنجلترا حتي تتوقف إسرائيل عن ما تفعله. يسخر الرجل من نفسه و من حماس الشباب وقتها قائلاً: و كأن الحياة ستقف و كل الناس ستقول (لقد خرج آرون بريجمان، يا إلهي) ثم يتوقفوا عن القتل و ما إلي ذلك. بالطبع خرج شاباً و مازال حتي اليوم خارج إسرائيل و لم يتوقف القتل الإسرائيلي.

اليوم في فرنسا الكلام لقطع الرؤوس. كل الأفعال التي تضم شبه تعقل من أي نوع مثل المقاطعة و تعريف الفرنسيين بالإسلام و مناقشة فكرة أن من حق الفرنسيين السخرية من رموز غيرهم الدينية، كل هذه الأشياء بما فيها هذا المقال، هي أفعال لا صوت لها وسط صراخ الديناصورات القائم هذا: ديناصور التنوير الفرنسي و ديناصور قطع الرؤوس الإسلامي. لا أحد سيستمع الآن، الكل سيفكر بعضلاته، سواء عضلات الهتاف أو عضلات الذراع الذي يحمل السيف.

المقاطعة و المناقشات ليس لها أي نتيجة الآن، نحن الآن في مرحلة مشاهدة هذا الفيلم علي أمل أن يمل الممثلون قريباً فيتوقف الفيلم أو يحدث شيء أخر يجذب إنتباههم بعيداً عن الإستمرار فيه، لكن لن يكون لنا دور في إيقافه علي الأرجح.