فالكيري

شاهدت منذ فترة فيلم فالكيري من بطولة توم كروز و إخراج براين سينجر. فالكيري هو إسم العملية العسكرية التي كانت تهدف لإسقاط الرايخ الثالث عن طريق قتل هتلر ثم القيام بإنقلاب عسكري، و هي المؤامرة المعروفة بإسم مؤامرة الجنرالات. خرجت من السينما و أنا أشعر أن الفيلم جيد، ليس متميزاً و ليس سيئاً كذلك. لم تكن لدي معلومات كثيرة عن محاولة إغتيال هتلر، و بالصدفة عثرت علي فيلم وثائقي عن الموضوع. بعد مشاهدة الفيلم الوثائقي إكتشفت أن فيلم فالكيري كان سيئاً. القصة الأصلية بها الكثير من النقاط التي تدفع للتأمل و التفكير، و هي نقاط أهملها الفيلم تماماً و ركز علي محاولة الإغتيال نفسها بشكل سطحي، دون مناقشة الدوافع أو النتائج التي ترتبت علي هذه العملية.

سأحاول هنا أن أتعرض لهذه النقاط الهامة التي أهملها الفيلم.

بداية هناك الكثير من المحاولات التي تمت أو دبرت لإغتيال هتلر، ليست مؤامرة الجنرالات أولها. الكثير من هذه المحاولات كان جريئاً حتي أن بعضها وصل إلي عمليات إنتحارية، خطط فيها بعض الضباط أن يفجروا أنفسهم في أثناء عرض عسكري يحضره هتلر. كل هذه المحاولات فشل لأن هتلر لم يكن له جدول محدد. في أحد الزيارات لمتحف، كان مخطط أن يتم إغتياله فيه، خرج هتلر من المتحف و أنهي الزيارة بعد دقيقتين فقط من بدايتها ! في أوقات أخري تم إلغاء الزيارات أو الإحتفالات دون سبب معروف.

كانت هناك الكثير من الفصائل و التنظيمات السرية التي ترغب بإسقاط نظام هتلر. هناك العسكرييون، هناك المثقفيين اليوتوبيين، هناك الكاثوليكيين المتدينين. إجتمع هؤلاء جميعاً، وبالرغم من إختلاف رأيهم حول كيفية إسقاط هتلر، إلا أنهم إتفقوا علي أن نظامه لابد أن يسقط. المثقفين الأرستقراطيين كانوا يرفضون الإغتيال، و كانوا يرغبون في تقديم هتلر للمحاكمة العلنية لإظهار الفظائع التي قام بها للشعب - الكثير من المعلومات عن معسكرات الإعتقال و الإبادة الجماعية كان خافياً عن الشعب الألماني بل و عن كثير من العسكريين - و كانوا يرون أن الإغتيال شيء غير أخلاقي، إلا أن هذا لم يقنع العسكريين الذين لم يجدوا وسيلة لإسقاط النظام إلا بقتل هتلر في البداية، و نظروا للمثقفين الأرستقراطيين علي أنهم مجموعة من الحالمين. المهم أن الجميع إتفقوا علي المبدأ و إن إختلفت الوسيلة.

لننظر للأشخاص الذين خططوا للمؤامرة أو قاموا بها. الصفة المشتركة بينهم جميعاً أنهم أشخاص عقلانيين مفكرين. علي سبيل المثال، كلايست فون سترافنبرج ، الرجل الذي وضع القنبلة لهتلر تحت مائدة الإجتماعات، كان أرستقراطياً درس الفلسفة و التاريخ و اللغة اللاتينية في صغره كما كان كاثوليكياً متديناً. في صغره إقتنع بكتابات أديب ألماني هو (جايورجا)، الذي كان يدعو إلي دولة المانية قائمة علي المثل و القيم الأخلاقية. كل هذا دفع البعض إلي وصفه بأنه (لم يكن نموذج للعسكري التقليدي). كما قلت في مقال سابق، العسكري المفكر المثقف الذكي كارثة علي أي نظام فاشي أو ظالم، لأنه رجل تحت يديه أسلحة و قوات و يمكنه التحرك و الفعل بدلاً من المثقفين المعتادين الذين لا يمتلكون إلا المناقشات و المقالات. في النظم الفاشية لابد للعسكري من أن يكون محدود التفكير محدود النزعات الأخلاقية لكي لا يمثل كارثة علي نظام الحكم، و هو الوضع الذي لم يتحقق لألمانيا، التي كان معظم قادتها العسكريين من العباقرة، و هو ما سمح لهتلر بإكتساح أوروبا أثناء الحرب، و هو أيضاً ما ساهم في سقوط ألمانيا بسبب رفضهم للحرب و الفظائع التي قام بها النازييون.

كان بعض من دبروا محاولة الإغتيال علي إتصال بالحلفاء. بعضهم درس في إنجلترا (في كامبريدج)، و قد حاولوا أن يحصلوا علي دعم أو مساعدة من الحلفاء في محاولاتهم لإسقاط هتلر، إلا أن الحلفاء كانوا ينظرون إلي هؤلاء الضباط بتشكك لأن عدداً منهم كان في مناصب قيادية في الجيش يقودون الحرب (علي سبيل المثال، أحد قادة المؤامرة، هيننج فون تريسكو كان قائد الأركان علي الجبهة الشرقية التي تحارب الإتحاد السوفيتي). هذه أحد النقاط المثيرة، فهم نموذج لأناس يعرفون الصواب و لكنهم لا يستطيعون تنفيذه. هم لا يؤمنون بالحرب و الفظائع التي تسببها إلا أنهم لا يستطيعون في الوقت نفسه أن ينسحبوا منها لأن هذا لن يوقف الحرب و لكنه سيتسبب في محاكمتهم بتهمة الخيانة، و هو ما لم يفهمه الحلفاء.

نقطة اخري هامة هي أن محاولة الإغتيال تمت عام 1944، بعد أن بدأ الإكتساح السوفيتي من الشرق بعد معركة ستالينجراد و بعد أن قام الحلفاء بالإنزال الشهير في نورماندي في فرنسا. وقتها كانت الحرب قد إنتهت بالنسبة لألمانيا و صار الموضوع موضوع وقت قبل سقوط ألمانيا، فما الذي يدفع الضباط إلي المخاطرة بحياتهم لقتل هتلر؟ حين سأل أحد الضباط الصغار فون تريسكو عن ما إذا كان الأمر يستحق المضي قدماً في محاولة الإغتيال، أجاب بأن ستة عشر ألف شخص يقتلون يومياً. هؤلاء لا يموتون في الحرب، بل يقتلهم النازييون في المعتقلات و معسكرات الإبادة الجماعية. بالتالي كل يوم يمكن إختصاره من زمن الحرب جدير بإستغلاله. لم يكن هذا رأي فون تريسكو وحده. كل المتآمرين كانوا أشخاص يؤمنون بالمثل العليا، و كانوا يرون أنهم إن لم يتحركوا فلن يستطيعوا العيش و مواجهة أنفسهم و ضمائرهم.

إستغل سترافنبرج إجتماع له مع هتلر و باقي القادة النازيين ووضع قنبلة موقوتة في حقيبته. ترك الحقيبة تحت مائدة الإجتماعات، و إستأذن لأنه ينتظر مكالمة هامة. ما أن خرج من الإجتماع حتي دوي الإنفجار،و أسرع سترافنبرج و ركب الطائرة المتوجهة إلي برلين ليقود مؤامرة الإنقلاب بعد أن ظن أن هتلر قد مات في الإنفجار. للاسف الإنفجار لم يقتل هتلر لأن أحدهم إصتدمت قدمه بالحقيبة فقام ووضعها خلف عامود رخامي إمتص الإنفجار الذي قتل ثلاثة من الجنرالات إلا أنه لم يصب هتلر إلا بجراح بسيطة في يده.

حين عاد سترافنبرج و بدأت محاولة الإنقلاب إعتماداً علي وفاة هتلر تم إحباطها بسرعة بمكالمة تليفونية من هتلر لأحد الضباط، أثبت له فيها أنه لم يمت و أمره فيها أن يلقي القبض علي المتآمرين. في نفس اليوم و في المساء، تم إعدام سترافنبرج و عدد من المتآمرين في ساحة المبني الثانوي لوزارة الدفاع الألمانية المعروف بإسم بندلربلوك، و هو المبني الذي كان فيه المتآمرون يقودون محاولة الإنقلاب، و هو المبني الذي تحول اليوم إلي مزار و تم فيه تصوير الكثير من المشاهد في الفيلم (من ضمنها مشهد الإعدام بالطبع). فيما بعد إكتشف النازييون أن هذا كان خطئاً فادحاً لأنهم لم يستجوبوهم لمعرفة باقي المتآمرين. قام الجستابو بتحريات و إستجوابات و تعذيب لعدد ضخم من المشتبه فيهم ووصلوا لمعظم المتآمرين. البعض أطلق النار علي نفسه قبل أن يلقي الجستابو القبض عليه لكي لا يشي بزملاؤه تحت التعذيب، مما ساهم في الحد من قدرة الجستابو علي الوصول إلي المتآمرين كلهم.

تمت محاكمة المتآمرين في محكمة أطلق عليها هتلر إسم (محكمة الشعب)، و هو الإسم نفسه الذي إختاره جمال عبد الناصر للمحكمة التي أقامها لمحاكمة قادة الإخوان المسلمين. هناك الكثير من التشابه بين المحاكمتين عموماً، كلاهما كان محاكمة عسكرية صورية علي طريقة عادل إمام (إستني بره علشان تحاكم محاكمة عادلة و تعدم). في كلا المحاكمتين كان القاضي يكيل السباب للمتهمين و يقاطعهم و يهينهم، و في كلا المحاكمتين كان الحكم معروفاً مقدماً. في المحاكمة الألمانية كان المتهمون يمثلون أمام القاضي حفاة و قد نزعوا حزام البنطال لكي يضطر المتهم لإمساك بنطاله لكي لا يسقط كنوع من الإهانة له، و هو أحد التقاليد العسكرية الغبية، أن يتم هذا مع من يقف للمحاكمة أمام من أعلي منه رتبة علي الرغم من أن المحاكمة قد تنتهي بتبرئة المتهم. الخلاف بين المحاكمتين أن بعض القادة الألمان إستطاع أن يرد الإهانة للقاضي، علي سبيل المثال أنه قال لأحدهم إنك جدير بأن تلقي في الجحيم فرد عليه قائلاً “سأراك هناك إذن”، و بالطبع كانت الحاكمة الألمانية مسجلة بالصوت و الصورة لتذاع علي الشعب الألماني مما سمح لي برؤية القاضي - الذي كان نازياً متعصباً بالطبع - و طريقة كلامه و سبابه للمتهمين. هذا شخص جدير بموضوع كامل يكتبه عنه خبير نفسي إلا أن هذا ليس موضوعنا الآن.

هذا ليس أول تشابه بين نظام هتلر و نظام جمال عبد الناصر عموماً. كلاهما نظام شمولي يقدس الحاكم و إستطاع أن يخدع الجماهير و الكثير من المثقفين و إنهار و تسبب إنهياره في صدمة أخلاقية للشعب ككل كما سنري لاحقاً.

بعد أقل من عام علي محاولة الإغتيال إنتهت الحرب و إنتحر هتلر و إستسلمت ألمانيا إستسلام غير مشروط للحلفاء. الحلفاء كانوا مترددين في الشروط التي يجب عليهم أن يقدموها مقابل إستسلام ألمانيا إلا أن محاولة الإغتيال حسمت قرارهم بأن أظهرت ضعف هتلر و ألمانيا عموماً و جعلتهم يطلبون إستسلاماً غير مشروط و هو ما حصلوا عليه.

الآن و بعد نهاية الحرب، كيف ينظر الألمان لأولئك الذين قاموا بمحاولة الإغتيال؟ المثير أنهم كانوا ينظرون لهم علي أنهم خونة لألمانيا. هذه نقطة مثيرة عموماً في تاريخ ألمانيا كشعب و مجتمع لم يعد يعرف أين الخطأ و أين الصواب، و ما الذي يجب عليه أن يؤمن به. كان هتلر يعد بألمانيا قوية تمسح الضعف و الذل الذي ساد المانيا بعد الحرب العالمية الأولي. أقام هتلر هذه الدولة القوية بل و إكتسح جيرانه، ثم في النهاية إنهار هذا الحلم. أحد أصدقائي عاش والداه في ألمانيا بضعة أعوام في الثمانينات، و قد حكي لي أن كل منطقة بها إمراة كبيرة السن يعتبرها الناس (كبيرة المنطقة)، كلمتها مسموعة و لها إحترام بين الجميع. السبب أنه بعد إنهيار ألمانيا لم يعد هناك شباب، فقط أطفال و شيوخ. الشباب ماتوا في الحرب حتي أن النازيين إضطروا في المراحل الأخيرة من الحرب إلي إحضار الأطفال من المدارس الإعدادية و العجائز من دور المسنين و إعطاؤهم سلاح للدفاع عن برلين! أدي هذا إلي أن ألمانيا بعد الحرب كان للنساء فيها دور ضخم، و أدي إلي إحترام كبير للعجائز اللاتي أقمن المجتمع بعد الحرب.

علي الرغم من هذا لم يكن الحلفاء ملائكة لكي يقتنع الألمان أن هتلر كان سيئاً. ونستون تشرشل قال في خطاب له “لم ندخل ألمانيا كمنقذين للشعب الألماني بل دخلناها كفاتحين”. الروس قاموا بالعديد من الفظائع و حوادث الإغتصاب الجماعي التي لم يجرؤ أحد عن الحديث عنها إلا مؤخراً. لم يكن الألمان يعرفون بالضبط أين الخطأ و أين الصواب و ما الذي يجب عليهم أن يؤمنوا به، و بالتالي كان المجتمع و لعدة سنوات بعد الحرب ينظر لمن قاموا بمحاولة إغتيال هتلر علي أنهم خونة. هنا يتشابه نظام هتلر مع نظام عبد الناصر أيضاً. سقوط نظام عبد الناصر كان في النكسة، و التي يري الكثير من المحللين أنها كانت بداية الإنهيار للكثير من القيم الأخلاقية التي سادت المجتمع الذي آمن بمباديء الثورة. علي سبيل المثال كان عبد الناصر حازماً في التجاوزات المالية و إستغلال النفوذ و لكن بعد الثورة صار أكثر ضعفاً و لم يعد بنفس شدته حين يري تجاوزاً مالياً من أحد المسئولين. بالنسبة للشعب فقد كانت النكسة في رأي عدد من المؤرخين الإجتماعيين بداية للإنهيار الأخلاقي و الفساد و سوء إستغلال السلطة بعد أن ظهر أن ما كان ينادي به عبد الناصر يختلف عن الواقع الذي كان يحدث علي يديه و علي يد قادته.

في نهاية الأربعينات بدأت النظرة للمتآمرين تتغير. أقيمت محاكمة سميت محاكمة ريمر ظهر فيها أن المتآمرين كانوا أشخاص من ذوي الأخلاق و المباديء و الولاء لألمانيا و ليسوا خونة. السجن الذي تم فيه تعذيب و إعدام المتآمرين تحول إلي مزار (لم يكن لهم قبور فقد تم إحراق جثثهم و نثر الرماد في الهواء) و صار الشعب يذهب إلي هناك حاملاً الزهور و علم ألمانيا. في عام 1953 تم إنشاء تمثال في ساحة مبني البندلربلوك حيث تم إعدام سترافنبورج . التمثال يمثل رجلاً قيدت يداه في رمز لمقاومة الشعب الألماني تحت الحكم النازي.

فيما بعد صار الجيش الألماني الجديد في حاجة إلي قدوة، إلي نموذج اخلاقي يتخذ مثلاً و يزيل من النفس العار الذي قام به الألمان في الحرب العالمية. صار من التقاليد في الجيش الألماني الجديد أن يتم سؤال المتقدمين لمنصب ضابط عن أراؤهم في المتآمرين. إن كان رأي المتقدم للإختبار أن المتأمرين خونة فإنه يتم إعتباره غير صالح للخدمة في الجيش الألماني. لقد صار هؤلاء المتآمرون رمزاً للأخلاق و الولاء لألمانيا في الجيش الألماني الجديد.

الطريف أنه علي الرغم من هذا الإحترام فإن الشعب صار يتحرج و يحذر من أن يدعو أولئك المتآمرين أبطالاً! المشكلة أن كلمة بطل قد كثر إستخدامها بكثرة قبل الحرب لوصف هتلر ثم إكتشف الشعب أنه لم يكن بطلاً بأي حال من الأحوال. اليوم صار الشعب يحذر من أن يسمي شخص ما بطلاً علي طريقة (اللي إتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي).

اليوم، في العشرين من يوليو من كل عام يجتمع الشعب الألماني للإحتفال بهؤلاء المتآمرين و لتكريمهم في ساحة البندلربلوك.