عن الطاعة و العصيان

“بعد ألف عام من اليوم سوف ينطق الألمان كلمة (ستالينجراد) بمهابة وتوقير، متذكرين أنه هناك وضع الألمان توقيعهم وختمهم على وثيقة النصر النهائي الساحق. دائماً هناك من يضحون بحياتهم من أجل مصلحة الآخرين، وحتى إن بقي رجل واحد فقط على قيد الحياة، ستستمر المعركة”. من خطبةلهيرمان جيورنج، نائب هتلر وقائد القوات الجوية في يناير 1943.

كان فريدريش باولوس نموذجاً للعسكري (اللي شايف شغله). كان من أول من ساهموا في إنشاء سلاح المدرعات في الجيش الألماني، حارب في الحرب العالمية الأولي، حياته كلها متركزة في عمله، فحتي حين كان يعود لبيته في المساء كان يكتب المقالات للجريدة العسكرية الألمانية. كل شيء فيه منظم ومهندم بداية من ثيابه مروراً بطريقة ترتيب الأقلام الرصاص على مكتبه وانتهاءاً بإدارته للجنود.

لم يكن باولوس نازياً متعصباً لكن بالطبع كعادة كل العسكريين كان باولوس مقتنعاً بأهمية الطاعة العمياء للقائد الأعلى للجيش:أدولف هتلر.

أثناء الحرب لم يكن باولوس في الصفوف الأولي للقيادة بل كان في الصف الثاني، كان الذراع اليمني لفون رايخناو، قائد الجيش السادس، و النازي المتعصب الشهير بإصداره ما عرف في التاريخ باسم (أمر القسوةSeverity Order )، الرسالة التي يوجهها لضباط و جنود الجيش السادس في أثناء القتال علي الجبهة الشرقية - جبهة القتال مع الاتحاد السوفيتي - في أهمية التعامل القاسي مع النظام (اليهودي – البلشفي)لاجتثاث الجنس اليهودي الذي وصفه بأنه جنس أقل مرتبة من باقي البشر.

من أكثر الأشياء التي تثير التأمل فيما يتعلق بالحرب العالمية الثانية أنه في ألمانيا كانت قيادات الصف الأول من المعاتيه (هتلر، جيورينج، هيس، روبينتروب، الخ)، وقيادات الصف الثاني من العباقرة (روميل، مانشتاين، الخ). كان باولوسوفون رايخناو تأكيد للقاعدة، فكما قالت إبنةباولوس فيما بعد الحرب: كان أبي يصدر التعليمات والأوامر للجيشوكان فونرايخناو يضع توقعيه فقط. هذا متوقع، الشخص المهووس المعتوه المتفرغ لأفكار مثل أهمية القسوة في إبادة البلشفيين واليهود لا يمكنه أن يفكر بالعقلانية المطلوبة لإدارة جيش (أو حتى إدارة محل صغير). لابد من شخص عقلاني ذكي وكان هذا الشخص هو باولوس.

أثناء الحرب على الجبهة الشرقية تمت ترقية باولوس ليصبح قائد الجيش السادس. فوجيءباولوس بالتعليمات السابقة التي كان أصدرها فون رايخناو والتي تقول إن من حق أي جندي نازي أن يفعل أي شيء يريده لأي سوفيتي يقابله أثناء الغزو: يقتله، يأخذ مملكاته، يسطو على زرعه، الخ. كانت هذه هي الأيام التي تلطخ فيها الأمهات الروسيات والأوكرانيات وجوه بناتهن بروث الماشية لأن ابنتها إن راقت لجندي نازي فسيغتصبها. أمر باولوس بإيقاف هذه الفظائع والإعدامات الجماعية ولكن متأخراً، بعد أن حدث ما لا يمكن محوه من نفسية الروس حتى اليوم. منذ بضعة أسابيع أصدر بوتن قانوناً يقضي بالسجن على كل من يشكك في الفظائع التي ارتكبها الألمان في الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب العالمية الثانية.

كان باولوس مهتماً بحياة جنوده. الكثير من الجنود كانوا يرونه شخص متردد بطيء في اتخاذ القرارات. كانت المشكلة أن هتلر ساقه إلى معركة ثبت مع الوقت أنها خاسرة وهو كان دائماً ما يفكر بعمق قبل أن يتخذ أي قرار يساوي حياة آلاف الجنود.

هناك خطأ شائع في الكثير من الحروب الاستعمارية الضخمة: أن تطيل خط إمدادك، أن تكون النقطة التي تمدك بالمقاتلين أو الطعام أو الذخيرة بعيدة تماماً عن النقطة التي تحارب فيها. عندها يصبح الأمر مسألة وقت قبل أن تنفذ إمداداتك وتستسلم، وكل ماعلى عدوك أن يفعله هو أن يصبر. هذا الخطأ وقع فيه هانيبال حين حاول غزو روما، نابوليون حين حاول غزو روسيا، روميل في معاركه في شمال أفريقيا، عقبة بن نافع في شمال أفريقيا أيضاً. كانت معركة ستالينجراد نموذجاً لنفس الخطأ.

تقدم الألمان في الإتحاد السوفيتي بسرعة كبيرة وانسحب السوفيت من أمامهم حتى حل الشتاء، وما أدراك ما الشتاء السوفيتي. درجة الحرارة كانت أربعين تحت الصفر، الثلوج حاصرت الألمان فلم تعد وسائل النقل البرية صالحة للاستعمال أو نقل الإمدادات. أدرك باولوس وأدرك السوفييت أن الموضوع موضوع وقت قبل أن ينهار الألمان. ثيابهم لم تكن مصممة لاحتمال البرد السوفيتي القارص، يحتاجون يومياً سبعمائة طن من الإمدادات بينما القيادة في ألمانيا لا تستطيع أن توفر لهم أكثر من مائة طن تلقيها عليهم الطائرات. هناك آلاف الجنود المصابين الذين يحتاجون لعناية طبية عاجلة. كان الأمر متعلق بالوقت فقط قبل أن يسقط الألمان.

حاصر السوفيتباولوس وأعطوه فرصة للاستسلام. طلب باولوس من القيادة أكثر من مرة أن يأذنوا له في الانسحاب فكان الرد يأتي بالدفاع حتى آخر رجل، وأن الجيش السادس عليه أن يقوم بمهمته التاريخية. في آخر اتصال لاسلكي بينه وبين القيادة، قام هتلر بترقيته إلى رتبة فيلد مارشال، وهي أعلي رتبة عسكرية ألمانية، مع تنويه لحقيقة أنه على مر تاريخ ألمانيا لم يسقط أي فيلد مارشال في الأسر. كانت الرسالة تنويه لباولوس أن ينتحر ولا يسقط في يد السوفييت!

هنا كانت أول مرة يعصي فيها باولوس أمر هتلر، إستسلمباولوس للسوفييت. كانت هذه أول مرة يأسر فيها السوفييت في تاريخهم شخصاً بهذه الرتبة، حتى أنه عندما تقدم باولوس للقائد السوفيتي قائلاً له (أنا فريدريتشباولوس) ارتبك ثم طلب منه إثبات شخصية!

عندما عرف هتلر بالأمر ثار وأقسم بأنه لن يرقي أي ضابط لرتبة فيلد مارشال مرة ثانية(وهو القسم الذي أخلفه في السنتين الباقيتين من الحرب سبع مرات). قال هتلر معلقاً علىإستسلامباولوسورفضه الانتحار: “في وقت السلم في ألمانيا، ما يقرب من ثمانية عشر أو عشرين ألف شخص ينتحرون سنوياً بدون أن يكونوا في مثل موقفه. هنا رجل يري خمسين أو ستين ألف يضحون بحياتهم في الدفاع عن أنفسهم، كيف له أن يسلم نفسه في النهاية للبلشفيين”؟

لم يكن باولوس يحترم هتلر ولم يكن نازياً متعصباً. حين علم أن هتلر يريده أن ينتحر قال إنه لن يطيع هذا العريف البوهيمي، في إشارة لأن هتلر لم يكن ضابطاً من قبل بل مجرد عريف، وفي إشارة لهوسه وتعصبه. على الرغم من إحتقاره لهتلر إلا أنه كان يري أن دوره كعسكري كان طاعة الأوامر. لم يوافق باولوس على المذابح التي قام بها النازيين في روسيا وأوكرانيا إلا أنه لم يقل لا للحرب ككل لأن هذا بالنسبة له كان كسراً لمبدأ الطاعة العمياء للقائد. في أثناء محاولاته لإقناع هتلر بأن يعدل عن رأيه، أرسل باولوس ضابطاً برسالة للقيادة في ألمانيا، ومعها رسالة وداع لزوجته يقول فيها" أنه يقف مدافعاً عما يؤمن به، يقف كجندي في انتظار الأوامر!". هذا هو الأساس الفكري والأخلاقي الذي عاش عليه باولوس: أنه مجرد جندي ينفذ الأوامر.

بعد استسلامه صارباولوس عضواً في الهيئة القومية لتحرير ألمانيا، وهي هيئة تشرف عليها الحكومة السوفيتية تدعو الشعب الألماني للاستسلام وإيقاف الحرب. بعد الحرب، وأثناء محاكمة القادة النازيين فينورمبرج التي تم استخدامه فيها كشاهد ضد القادة النازيين الآخرين، سأله الألمان عن مصير الجنود الذين كانوا تحت قيادته والذين أسرهم الروس. كان رده للصحفيين “أخبروا الزوجات والأمهات أن أزواجهم وأبناؤهم بخير”.

بعد سقوط مئات الآلاف من القتلى في القتال مع السوفييت، سقط تسعين ألف جندي ألماني كانوا تحت قيادة باولوس في الأسر، وبالطبع لم يكونوا بخير. أثناء ترحيلهم سيراً على الأقدام إلى معسكرات الاعتقال في سيبريا، مات نصف هؤلاء تقريباً. النصف الثاني مات في معسكرات الاعتقال نفسها التي تم معاملة الألمان فيها بأسوأ معاملة ممكنة، فالروس لم ينسوا ما فعله الألمان على أرضهم. النازيون كانوا يفضلون أن يقتلهم الأمريكيين عن أن يأسرهم السوفييت. من وسط التسعين ألف أسير، ستة ألاف فقط عادوا لألمانيا بعد الحرب بعشر سنوات.

بالطبع لم يمكن لباولوس أن يتهم السوفيت بأنهم وحوش لأنه هو أيضاً تحت الأسر، صحيح أنه يعيش في منزل محترم في المانيا الشرقية و صحيح أن الروس يعاملونه باحترام إلا أنه ليس حر الحركة. بعد الحرب تعامل الأمريكيين مع القيادات العسكرية النازية على أنهم مصدر علم وخبرة عسكرية. مانشتاين مثلاً، الرجل الذي كان قائد روميل يوماً ما والذي وضع الخطة التي اجتاح بها الألمان هولندا كلها في يوم واحد، والذي أخذ حكماً بالسجن لعشر سنوات، أخرجه الأمريكيين من السجن بعد أن قضي أربعة منها فقط. عبقرية عسكرية مثل هذا لا يمكن أن يقضي يومه في كسر الأحجار مثلاً، الأفضل أن يستفيدوا من علمه وخبرته حتى إن كان مجرم حرب.

بالتالي خاف السوفييت أن ينفع باولوس الأمريكيين بعلمه العسكري فمنعوا خروجه من ألمانيا الشرقية. زوجته وأولاده الذين يعيشون في ألمانيا الغربية ليس بإمكانهم زيارته إلا بتصريح. في الواقع فإنه لم ير زوجته بعد معركة ستالينجراد ثانية حتى ماتت، وطلب في وصيته أن يدفن بجوارها في ألمانيا الغربية.

هناك منحدر أخلاقي وضع باولوس قدمه على أوله حين قبل مبدأ الطاعة العمياء لشخص ما، وإلى آخر حياته ظل ينحدر، من طاعة أوامر هتلر لإخفاء فظائع السوفيت. منحدر لم ينتهي إلا بنهاية حياة باولوس نفسه عجوزاً وحيداً بعيداً عن أولاده وزوجته.صحيح أنه قال لا، إلا أنه قالها بعد فوات الأوان بكثير.

لم تعرف البشرية على مدي تاريخها فكرة أسوأ تأثيراً من فكرة الطاعة العمياء. على الرغم من أن العسكريين يشتهرون بهذا الأمر إلا أنه ليس حكراً عليهم. هناك الكثيرين ممن يعجزون عن أن يقولوا لا، أو يعجزون عن أن يقولوها في الوقت المناسب أو لا يقولونها عالية بما يكفي، يعجزون أن يقولوها للقائد، للأب، للشيخ، لرئيس التنظيم.

وفي كل مرة هناك مبرر نصف عقلاني يصف أهمية الطاعة العمياء، مثل حجة أن القائد أكثر منك حصافة وعلماً، أو أن هناك أوقات لا يجوز فيها مناقشة القائد، الخ. وهي كلها مبررات حمقاء لأنها تفترض في شخص ما (أيا ما كان هذا الشخص) العلم المطلق والصواب في كل المواقف، وهي مبررات حمقاء في نظر كل من درس التاريخ لأنه ثبت أن ضررها أكثر بكثير من نفعها، وهي مبررات حمقاء لأنها تفترض أن الأمر إما أن يكون طاعة مطلقة أو عصيان مطلق ولا توجد أرضية وسط.

وفي وسط كل هذا فإن المستفيد هو القائد، سواء كان القائد هو هنري كيسينجر أو الحزب النازي أو مبارك أو عبد الناصر، فإن الجنود (حتى وإن كانوا برتبة فيلد مارشال) عليهم الموت بينما القائد عليه أن يلقي الخطب الرنانة في أهمية الصمود وعظمة من يقفون ليقاتلوا حتى آخر رجل تحقيقاً لرؤيته الشخصية وأفكاره المهووسة.


“تاريخياً، أفظع الأفعال – الحروب، الإبادة الجماعية، العبودية – لم تكن نتيجة عصيان الأوامر، بل كانت نتيجة طاعة الأوامر”. هوارد زين، مؤرخ أمريكي.