عن إسلامية الدولة أو ليبراليتها

كثر الحديث في مصر مؤخراً عن هوية الدولة و الدستور و المواد الفوق دستورية ، و ظهرت المظاهرات التي تدافع عن إسلامية الدولة و حركات و دعوات للدفاع عن مدنية الدولة و تبني مباديء ليبرالية في وضع مواد فوق دستورية تحكم بناء الدستور إلي آخر هذه الخلافات التي ظهرت علي الساحة بعد الثورة. في رأيي أن هذه الخلافات شابها الكثير من التسطيح لأمور لا تحتمل التسطيح ، الأمر الذي يؤدي إلي تعميق الخلاف و زيادته و يؤدي إلي حالة من الشلل الذي يكتفي كل طرف فيه بالصياح و لا يتحرك أحد للفعل إلا قليلاً.

و سبب التسطيح في رأيي هو الإكتفاء بكلمة واحدة مثل كلمة ليبرالية أو إسلامية، في حين أن هناك إختلاف كبير في فهم الليبرالية بين عدد ممن يسمون أنفسهم ليبراليين، و هناك خلاف كبير بين الكثير  من يسمون أنفسهم إسلاميين لأن تعريف كلمة ليبرالية أو إسلامية تعريف واسع يختلف فيه الكثير من الناس و يفسره كل بناء علي ما يراه و ما يظنه الفهم السليم للكلمة.

فعلي جانب الليبراليين فإن هناك خلافات حول موضوعات مثل هل الهدف من الليبرالية هو حماية حقوق الأقلية أم حماية الحرية الفردية؟ البعض يري أن الليبرالية هي حماية حرية الفرد و منع المجتمع من تقييد حرية الفرد ما دام لا يؤذي شخص غيره، حتي إن كان ما يفعله الفرد يضر المجتمع ككل. علي سبيل المثال و طبقاً للفكر الليبرالي المطبق في أمريكا فإننا لا نستطيع أن نمنع أحداً من مشاهدة الأفلام الإباحية علي الرغم من كثرة الدراسات التي خرجت من أمريكا و التي تتحدث عن الضرر الذي تحدث المواد الإباحية للمجتمع ككل، و يمكننا أن نفهم بناء علي هذا الفكر الدعوات التي تنادي بإباحة الماريجوانا في أمريكا بشكل قانوني، فعلي الرغم من أن إنتشار المخدرات يضعف المجتمع ككل و لكن ما دام من يشرب المخدرات لم يجبر أحداً علي أن يشرب معه فإننا لا يجب أن نقيد الحرية الفردية فيما يتعلق بشرب الماريجوانا. في هذا النوع من الليبرالية فإن الفرد يعلو علي المجتمع و تصير الحرية الفردية هي الهدف الأسمي الذي تجب حمايته أيا ما كانت النتيجة.

علي جانب آخر، فإن البعض يري أن الليبرالية تهدف إلي منع الأغلبية من قمع حقوق الأقلية، و هذا لا يساوي أن نعلي من قيمة الفرد أو نسمح بما يرفضه المجتمع بناء علي قيمه و مبادئه، و بالتالي هذا النوع من الفكر الليبرالي يمنع وضع قوانين مثل التي وضعها هتلر (الذي وصل للحكم برضا الأغلبية في ألمانيا) تقلل من حقوق اليهود في الدولة، و قد ينادي بعدم أخذ المباديء الدينية للأغلبية كمصدر للتشريع لكي لا يتم إجبار البعض علي الإلتزام بمباديء دينية لا يقبلونها.

يمكننا أن نري علامة علي الإختلافات بين الليبراليين في كثرة المدارس الليبرالية مثل الليبرالية الكلاسيكية و الليبرالية الحديثة و الليبرالية الإجتماعية، الخ.

علي جانب الإسلاميين، فهناك الكثير من القضايا التي يختلف حولها الإسلامييون. مثلاً هل يجب أن نقتل المدنيين في الدول التي تحارب المسلمين مثلما فعل فعل بن لادن؟ هذا نموذج صارخ علي الإختلاف في الفكر بين من يسمون أنفهسم إسلاميين، وعلي الرغم من أن الكثير من الإسلاميين في مصر يرفضون هذا المبدأ إلا أننا لا يمكننا أن ننفي أن هناك من يسمون أنفسهم إسلاميين يقتنعون بهذا المبدأ في مختلف أنحاء العالم، و حتي بين الإسلاميين في مصر فإن الإختلافات موجودة بكثرة مثل هل نجبر المسلمين علي الإلتزام الديني بالشعائر بأن يقيموا الصلوات و نمنع السير في الشوارع وقت الآذان؟ هل يجب إجبار كل مسلمة علي إرتداء الحجاب و معاقبة من تخالف هذا؟ هل يجب أن نطبق الحدود الإسلامية؟ و متي نطبقها و كيف؟ علي مراحل و بالتدريج أم الآن؟ هل نسمح بعمل المرأة أم نمنعه؟. و إن سمحنا به فما هي الضوابط التي ستضعها الدولة لتحكم عمل المرأة؟

في عام 2007 طرحت مؤسسة راند للدراسات الإستراتيجية دراسة سميت “بناء شبكات مسلمين معتدلين”. في هذه الدراسة قال الباحثون أن هناك نظم حكم ديكتاتورية في كثير من الدول الإسلامية و هذا لا يخدم المصالح الأمريكية لأنه يخرج جماعات متطرفة و يؤثر علي الإستقرار في هذه الدول لهذا فإن الحل يكمن في أن تعمل أمريكا علي إنشاء شبكات من المسلمين المعتدلين في الدول الإسلامية. ما يهمني هنا هو تعريف المسلمين المعتدلين الذي ذكرته الدراسة. المسلم المعتدل في نظر من كتبوا هذه الدراسة هو الذي لا يأخذ الشريعة كمصدر للتشريع و يساوي بين المرأة و الرجل في الميراث، و مثال علي المسلمين المعتدلين في رأيهم مفتي موناكو الذي  أيد منع الحجاب في فرنسا.

بالتالي لو كان من قاموا بكتابة هذه الدراسة في مصر في الأيام الأخيرة فربما شاركوا في المظاهرات التي تنادي بدولة إسلامية !هم يريدون نشر الإسلام و دعم الإسلاميين. صحيح أن لديهم مفهوم عن الإسلام يختلف عن مفهوم معظم الإسلاميين و لكن من الذي قال أن نداء مثل “إسلامية ..إسلامية” يخالف ما ينادون هم به؟

ما أريد قوله أن كل من يتشبث بكلمة معينة فإنه يتشبث بفهمه هو للكلمة و فهمنا جميعاً لنفس الكلمات يخلتف. البعض قد يرد قائلاً إن فهمي للإسلام أو الليبرالية هو الفهم الصحيح و فهم الآخرين هو الفهم الخاطيء، و هي عبارة بها درجة لا بأس بها من الغرور و الأهم من هذا أنها لا تقنع أحداً سوي قائلها و لا تؤدي إلي حل خلافات أو إقناع الطرف الآخر. لابد أن نعترف أن هناك آخرين لهم فهم و تصور مخلتف لنفس الكلمة و هدفنا ليس أن نخطيء الناس بل أن نحل الخلافات بأن نصل لنقاط الخلاف بالتفصيل و نبحث عن نقاط الإتفاق و نتحرك من عندها.

المرجعية و ال Meta Ideology

عند الحديث عن الأيديولوجيات عموماً عادة ما يبدأ الباحثون بتحديد المرجعيات و المباديء المؤسسة للأيديولوجيات قبل مناقشتها.

المرجعيات هي الكتب و الأعمال الفكرية التي تمثل أساس للأيديولوجيا. بالتالي إن إتفقنا أن نأخذ القرآن و السنة فقط كمرجعيات للفكر الإسلامي فإن الأحكام الفقهية التي تقبل الخلاف لا تكون مرجعية عند الحديث عن الإسلام، و يصير كل من يخالف مبدأ من الكتاب و السنة يخالف الفكر الإسلامي حتي و إن سمي نفسه إسلامياً، و يصير مقبولاً أن يقتنع الأسلاميون بآراء فقهية مختلفة.

نفس الشيء يقال عن مرجعيات الليبرالية، فيجب أن نتفق ما هي الكتابات و الأعمال الفكرية التي قامت عليها الليبرالية، و بالتالي فكل من ينادي بمبدأ أو فكرة تخالف هذه المرجعيات فإنه يكون مخالفاً للفكر الليبرالي حتي و إن سمي نفسه ليبرالياً.

الأمر قد يتعمق للبحث عن المباديء المؤسسة للأيديولوجيا أو ما يسميه الباحثون meta ideology، و هي مباديء و أفكار لا يمكن نفيها أو إثباتها غالباً إلا أنها تمثل أساساً قامت عليه الأيديولوجيات.

مثلاً من ضمن المباديء التي يقوم عليها فكر الإسلاميين أن الإسلام دين منزل من عند الله صالح لكل الأزمنة و أن المسلمون مأمورون بطاعة ما فيه من أوامر و إجتناب ما فيه من نواهي و أن الإلتزام بما فيه يؤدي إلي خير الدنيا و الآخرة. هذه مباديء يؤمن بها الإسلاميون، و هي مباديء لا يمكن نفيها أو إثباتها بشكل مادي لأن عليها خلافاً، إذ لا يؤمن بها غير المسلمين مثلاً.

مثال آخر، أحد المباديء التي تقوم عليها عدد من الايديولوجيات هي أن الدولة كجهاز إداري و كجهاز حاكم تحاول التضخم بزيادة عدد العاملين في الحكومة و زيادة سلطات الحكومة و توغلها في كافة نواحي الحياة و هذا التضخم لابد أن يلازمه فساد سياسي و إداري. هذا مبدأ لا يمكن نفيه أو إثباته، و قد يكون مبني علي شواهد تاريخية أو ملاحظات، و لكن في النهاية هو مبدأ تقوم عليه بعض الأيديولجيات مثل الماركسية و التي تهدف من ضمن ما تهدف إليه إلي تقليل سلطة الحكومة و حجم المؤسسات الحكومية.

عند دراسة الأيديولوجيات المختلفة فإن الباحثون يحددون المباديء المحددة للأيديولوجيا و بالتالي أي شخص يخالف هذه المباديء و الأفكار يعتبر مخالفاً لهذه الأيديولوجيا حتي و إن إدعي إنتماؤه لهذه الإيديولوجيا، و عادة يتم رد الخلافات بين الأيديولوجيات المختلفة إلي الإختلافات في المباديء و المسلمات التي قامت عليها هذه الأيديولوجيات.

تحليل الأيديولوجيات بناء علي المرجعيات و المباديء المؤسسة للأيديولوجيا و الذي يتبعه البعض الآن (ليس بهذه الدرجة من الدقة و لكن بشكل مشابه) قد يكون مفيداً للباحثين الأكاديميين إلا أنه في حالتنا لا يحل المشكلة، لأنه في النهاية يخرج بنتيجة أن فلان يعتبر نفسه ليبرالياً بينما هو يسيء فهم الليبرالية، أو أن فلان يسمي نفسه إسلامي بينما هو يسيء فهم الإسلام، و لكنه لا يؤدي إلي حل الخلاف بين الأطراف المختلفة

تحرير المصطلح

يعرف العلماء ما يسمي بتحرير المصطلح، و هي كلمة تستخدم في العلوم الإنسانية(مثل العلوم الدينية، الإقتصاد، السياسة، الخ) بكثرة  و تعني محاولة تفسير مصطلح معين قبل إستخدامه، و عادة ما يكون لهذه المصطلح فهماً مختلفاً من شخص لآخر. مثلاً حين يتحدث طبيب نفسي عن التعامل مع المريض النفسي فإنه قد يبدأ بتعريف المريض النفسي بأنه الشخص الذي لا يستطيع أن يكون فعالاً في المجتمع بسبب مشاكل نفسية. بالتالي فإن كان شخص يعاني من إكتئاب مثلاً إلا أنه فعال في المجتمع، يؤدي عمله و يقوم بدوره كزوج و أب فإنه لا يعتبر مريض نفسياً من وجهة نظر هذا الطبيب حتي و إن كان إكتئابه يمنعه من الشعور بالسعادة و يسبب له ضيقاً دائماً. هذا التعريف قد يختلف من مدرسة نفسية لأخري و لهذا فإن الطبيب يبدأ بتعريف مفهومه هو لكلمة مريض نفسي ثم يتحرك من هذه النقطة.

علماء الدين فهموا هذه العبارة قديماً فقالوا: “لا مشاحة في الإصطلاح” بمعني أن الخلاف يجب أن يكون علي المعني المقصود و ليس علي اللفظ. في مشكلتنا الحالية أري أن علينا بدلاً من إستخدام كلمة واحدة مثل ليبرالية أو إسلامية أو مدنية ثم نقضي الوقت في الخلافات، فإن علي كل منا أن يتحدث عن مباديء معينة يراها و ليس عن كلمة واحدة، يتحدث عن المعني الذي يقصده بالكلمة بدلاً من أن يكتفي بكلمة يظن أن كل الناس تفهمها بنفس فهمه لها. هذا كفيل بحل الكثير من نقاط الخلاف و إظهار نقاط الإتفاق.

في لقاء في برنامج (آمنت بالله) مع عمرو حمزاوي الذي يصنف علي أنه مفكر ليبرالي، سأله المذيع عن ما الذي يجب أن نفعله إن تعارض نص ديني مثل نصوص المواريث مع فكرة حقوق الأقليات أو المستضعفين (غالباً كان يشير لعدم المساواة بين الرجل و المرأة في الميراث) فرد عمرو حمزاوي بأن علينا وقتها أن نعمل بالنص الديني ! هذا يخالف الصورة الشائعة عن الليبراليين أنهم يريدون أن يحتكموا إلي نصوص وضعية و إستقاط التشريعات الدينية. و سواء كان السبب أنه لا خلاف بين الليبرالية و الدين الإسلامي أو أن عمرو حمزاوي أساء فهم الليبرالية فإن النتيجة أن هناك ليبرالي يتوافق مع المسلمين في نقطة يظن الكثيرين أنها نقطة خلاف رئيسية بين الفريقين

خاتمة

بدلاً من الإكتفاء بالهتاف من أجل الليبرالية أو الدولة المدنية أو الإسلامية، فإن علي الصفوة الفكرية أن تتحدث عن مباديء و نقاط واضحة و محددة تساعد علي فهم الطرفين لبعضهم البعض و ربما تؤدي إلي إظهار إختلافات بين أشخاص كانوا يظنون أنفسهم علي جانب واحد إلا أنها وقتها ستكون إختلافات واضحة و محددة يمكن مناقشتها و التعالم معها بدلاً من الإكتفاء بالهتاف سواء في الميادين أو علي شاشات التليفزيون أو علي صفحات الإنترنت.

التسطيح و الإستغناء بكلمة واحدة عن شرح الكثير من المباديء قد يكون أسهل للمتلقي إلا أن هدفنا ليس أن نعطي المتلقي شيئاً بسيطاً نحركه به بل أن نرتقي بفكره و إدراكه و جعل تحركه بناء علي معلومات فعلية لا علي إستثارة مشاعر. تسطيح الأمور لا يؤدي فقط إلي إختلافات لا داعي لها أو إتفاقات لا أساس لها بل و يعتبر تضليلاً للناس، سواء كان هذا التضليل تم بحسن أو سوء نية.