خواطر عن التعليم الجامعي في مصر

هذا المقال عبارة عن بعض الأفكار و الخواطر عن التعليم الجامعي في مصر. يمكنك إعتباره إستكمال لمقال هندسة عين شمس و مخلص التاريخ الذي نشرته منذ ما يزيد عن عام.

المدير هو من يجيد الإدارة

في عام 1942 قام إنريكو فيرمي و ليو زيلارد بإجراء أول تجربة إنشطار نووي، و التي أدت فيما بعد لإنتاج القنبلة الذرية. معلومة بسيطة يعرفها الكثير من الناس، و بسبب هذا الإنجاز العلمي و إنجازات أخري حاز كل من فرمي و زيلارد علي شهرتهما العلمية.

ما لا يعرف الكثيرون هو تفاصيل العلاقة بينهما. كلاهما كان أستاذاً بجامعة كولومبيا حيث كانوا يجرون تجاربهما. كان فرمي رجلاً منظماً، يستيقظ في الصباح الباكر، يتناول الإفطار مع زوجته ثم يعد قائمة بالتجارب التي سيجريها اليوم.

زيلارد علي الجانب الآخر كان شخصاً غريباً له مسحة تنبؤية ما. كان يجلس بالساعات الطويلة لا يفعل شيئاً، فقط يفكر. بعد تفكير عميق وصل لفكرة أنه إن ضربنا ذرة بنيوترون فإن هذا سيؤدي إلي إنشطارها و خروج مزيد من النيوترونات التي ستضرب المزيد من الذرات التي ستنشطر بدورها و هكذا، و هو التفاعل المتسلسل الشهير. ما الدليل علي هذا الكلام؟ لا يوجد دليل. هل قام بتجربة ما لتثبت أفكاره؟ لا، هو فقط يفكر ولا يفعل.

المثير أن أفكاره حين كانت تتم تجربتها كانت تثبت صحتها بشكل مثير للأعصاب. لم يكن هذا هو الموقف الوحيد الذي وصل فيه بالتفكير فقط إلي إكتشافات، بل إن قصة الإنشطار النووي كانت مليئة بالألغاز التي توقف أمامها فيرمي بتجاربه ليحلها زيلارد بمجرد التفكير، علي سبيل المثال كانوا يحتاجون لشيء ينظم من سرعة النيوترون قبل أن يرتطم بالذرة. إن زادت سرعة النيوترون فسيخترق الذرة و يخرج من الجانب الآخر دون أن تنشطر الذرة وإن قلت سرعته فسيرتطم بالذرة ثم يرتد عنها. كانت الفكرة التي وصلوا إليها أن يمر النيوترون في وسط من مادة معينة تقوم بتقليل سرعته إلي الدرجة المناسبة قبل أن يرتطم بالذرة. السؤال هنا هو ما هي هذه المادة؟ قام فرمي بتجربة مئات المواد دون نتيجة مرضية. إما أن تقل سرعة النيوترون بشدة و إما أن لا تقل للسرعة المطلوبة. زيلارد فكر أن إستخدام الجرافيت النقي سيحدث الأثر المطلوب، و كان مصيباً !

الكثير من زملاء زيلارد كانوا يصتدمون بنزعته للتفكير فقط دون العمل. كثيراً ما كان يقتحم مكاتب أساتذة قسم الفيزياء ليقطع عليهم تجاربهم و عملهم مقترحاً عليهم أفكاراً خطرت بباله أثناء جلوسه في الشمس متأملاً. كان هذا يضايقهم أحياناً حتي أن أحدهم (و كان حائزاً علي جائزة نوبل) أخرجه ذات مرة من مكتبه قائلاً : “لديك أفكار أكثر من اللازم”.

علي حد تعبير أحد مساعدي فيرمي و زيلارد، فإن فيرمي لا ينتقل من نقطة أ إلي نقطة ب قبل دراسة نقطة أ بعمق و الخروج بكل النتائج الممكنة التي تجعله يحدد ما الذي سيفعله في النقطة ب بالظبط. زيلارد كان ينتقل من النقطة أ إلي النقطة د متسائلاً لماذا تضيع وقتك في النقطة ب و جـ.

بالطبع يمكن تخيل العلاقة بين شخصين بينهما هذا الإختلاف الرهيب في الشخصية. المنطقي أن لا يكملا أبحاثهما سوياً و ما كان الإنشطار النووي سيخرج للحياة لولا شخص مجهول، هذا الشخص هو رئيس قسم الفيزياء بالجامعة.

كان رئيس قسم الفيزياء متفهماً لطبيعة كل من فيرمي و زيلارد و كان هو الذي يتولي التنسيق بينهما و حل الخلافات الكثيرة بينهما و يعتبر هو الضلع الثالث في إكتشاف الإنشطار النووي.

هنا نلاحظ شيئاً. قبل ذهاب فرمي إلي أمريكا (هو في الأصل إيطالي الجنسية) و قبل أن يلتحق بجامعة كولومبيا كان حائزاً علي جائزة نوبل في الفيزياء. علي الرغم من هذا هو لم يكن رئيس لقسم الفيزياء (الذي كان يضم عدد لا بأس به من الحائزين علي جائزة نوبل بجانب فيرمي) بل كان الرئيس شخص غير معروف. لم يتذمر فيرمي أو زيلارد، و لم يشعر أي منهما أن في هذا إنتقاص من قدره، لأن المدير أو الرئيس يفترض به أن يجيد القيادة. كون فيرمي و زيلارد من عباقرة الفيزياء لا يعني أنهما يجيدان إدارة عملية تعليمية أو بحثية. هذا من البديهيات في مثل هذه المؤسسات. طوال حياته لم ينل فيرمي منصب رئيس قسم الفيزياء سواء في إيطاليا أو في أمريكا.

قارن هذا برئاسة الأقسام عندنا في الكليات المصرية شفاها الله، و التي تعتمد علي أقدمية الأستاذ الجامعي، و هو مقياس لا يقل حماقة عن إختيار رئيس القسم بناء علي مقاس حذاؤه.

المشكلة ليست روتينية قدر ما هي مشكلة البحث عن السلطة و الرئاسة و المنصب الإجتماعي، أن يقدم أحدهم نفسه علي أنه الأستاذ الدكتور فلان الفلاني، رئيس قسم كذا بكلية كذا. بعد قضاء العديد من السنوات في القسم يري الأستاذ الجامعي أن من حقه أن يرأس هذا القسم. لقد صارت رئاسة القسم حقاً مكتسباً و صار التقاتل عليه سمة في الكليات لا ينظمها سوي فكرة حمقاء مثل فكرة الأقدمية. لم يقترح أحدهم حتي أن يتم تنظيم الموضوع بناء علي المستوي العلمي (علي الرغم من أنها فكرة خاطئة كما قلنا) لأن الكل أساتذة جامعيون، قام أغلبهم بصم كلمتين و (دلقوهم) في ورقة الإمتحان ليصيروا معيدين، ثم (بصم) معظمهم كلمتين من الدوريات العلمية نالوا بها الماجيستير و الدكتوراه. التفرقة بين الأساتذة بناء علي المستوي العلمي صعبة إن لم تكن مستحيلة.

الموهبة

أثناء دراستي في الكلية لاحظ بعض الطلبة أن بعض الطلبة متفوقين علمياً في مجالات معينة (البرمجة، الهاردوير، الخ). كان تفوق هؤلاء الطلبة و معلوماتهم خارج مجال الدراسة في الكلية لذا خرجت فكرة أن يقوم هؤلاء الطلبة بالتدريس لزملاؤهم في الصيف. كنت أحد القائمين علي تدريس البرمجة في هذا المشروع.

حين كنا نخطط للمشروع جائني بعض الزملاء المسئولين إدارياً عن المشروع، أخبروني أن هناك ما يزيد عن عشرين طالب إشتركوا في الكورس الذي سأقوم بالتدريس فيه. قال لي أحدهم في حماس:“نريد أن يخرجوا كلهم بنفس مستواك من هذا الكورس”. كان ردي أننا إن خرجنا بواحد فقط فإن هذا سيكون إنجاز. أنا لن أعلم أحد شيئاً، كل ما سأفعله هو أن أختصر الطريق علي شخص متميز بالفعل.

التفكير التقليدي المصري، تفكير (أنا علمتك) تفكير فاشل. هناك شخص لديه الموهبة و القدرة العقلية، و هذا الشخص سأحاول أن أنقل له ما أعرفه و أعطيه المصادر التي تمكنه من التعلم بنفسه. أنا لن أصنع من الفسيخ شربات و لا أحب سياسة العدد في الليمون، المتميزين قلة في أي مجال في العالم، هذه بديهية من بديهيات الحياة و عليك دائماً أن تفرق بين المتميز و غير المتميز.

أثناء تدريس الكورس إنسحب عدد من الطلبة تدريجياً و لم يتبق سوي طالب متميز و بعض الطلبة الآخرين. الطالب يدرس في قسم ميكانيكا علي الرغم من هذا له إهتمام بالبرمجة. كنت أحاول أن أدفع الطلبة للتعلم بأنفسهم، البحث عن حلول لمشكلات قبل أن نناقشها، أعطيهم كتب ليقرأوها بأنفسهم، الخ.

لم يستطع أحد أن يسير بهذا الأسلوب سوي هذا الطالب. كان يقرأ لوحده من الكتب التي أعطيتها له و يأتي لي بما لم يفهمه. تدريجياً بدأ يجرب أن يقوم ببرامج من فكره الخاص غير تلك التي أطلبها منه ثم يأتي لي ليعرضها علي و يأخذ ملاحظاتي و يطبقها، الخ.

باقي الطلبة كانوا يفضلون أسلوب التعليم المعتاد الأشبه بأسلوب الكتاتيب. لم أستطع بالطبع أن أطردهم و لن يستوعبوا فكرة أن المتميز لابد له من معاملة خاصة لذا كان الحل أن أجعل ميعاد المحاضرات في الساعة العاشرة صابحاً و أعطي ميعاد لهذا الطالب في الثامنة صباحاً لأنفرد به نناقش ما وصل إليه و المشكلات التي واجهها، إلخ.

فيما بعد ذاكر هذا الطالب بمفرده و أخذ شهادات في البرمجة من مايكروسوفت دون أخذ كورسات، فقط يقرأ الكتب و يطبق علي ما يقرؤه ثم يدخل الإمتحان. كان تقديري صائباً، لم نخرج سوي بشخص واحد و هو بالفعل إنسان متميز ساعدته أنا، لا أحد يستطيع أن يصنع إنسان متميز في هذه المرحلة من العمر. الأب و الأم قد يكون لهما دور في إضافة قدر من التميز عند إبنهما الذي يربيهانه منذ الطفولة (لهما دور و ليس لهما القدرة المطلقة)، ولكن في سن الكلية فإن الشخص غالباً ما يكون قد تشكل عقلياً.

ربما كانت البرمجة مجالاً منفرداً في إحتياجها لقدر كبير من الموهبة أكثر من باقي العلوم و لكن المبدأ نفس يظل قائماً. ليس كل من دخل هندسة يصلح لأن يكون مهندساً و ليس كل من دخل طب يصلح لأن يكون طبيباً.

المشكلة أن هذا شيء لا يقتنع به أحد، سواء من الطلبة أو من أولياء الأمور. حاول أن تشرح لأحد أولياء الأمور أن إبنه لا يصلح لدراسة الهندسة أو الطب علي الرغم من حصوله علي مجموع كبير في الثانوية العامة و ستجد نفسك أمام مشهد كوميدي من الطراز الأول. هو علي إستعداد لأن يقبل الموهبة في إختيار لاعبي الكرة لكنه لا يقبلها عند إختيار من يصلح لدخول كلية من الكليات.

في أمريكا كان هناك شاب مهتم بالبرمجة. في سن الثامنة عشر تم تصنيفه من قبل مايكروسوفت علي أنه (محترف عالي القيمة Most Valuable Professional) و هو لقب شرفي يعطي للمبرمجين الذين يقدمون العون للآخرين من خلال المنتديات المختلفة في مجالات البرمجيات المتعلقة بتكنولوجيا مايكروسوفت. الفتي كان شديد التفوق حتي أنه لم يدخل الإمتحان النهائي في المدرسة لأن درجاته المتراكمة في الإختبارات التي تجري طوال العام كانت كافية لإدارة المدرسة للدلالة علي مستواه.

حين تقدم هذا الفتي للدراسة في معهد ماساشوستس للتقنية تم رفضه! لاحظ أن المصاريف هناك تزيد عن الثلاثين الف دولار في السنة، و الفتي سيعمل في أثناء الدراسة ليوفر هذه المصاريف، علي الرغم من هذا رفضته إدارة الكلية. السبب أن المتقدمين للدراسة تعقد لهم عدد من الإختبارات قبل دخول الكلية، و من ضمن الأشياء التي يحاول الممتحنون قياسها لدي المتقدم للدراسة تفكيره العام، لماذا يرغب في الدراسة هنا؟ ما تخطيطه لمستقبله؟ الخ. لم ترق إجابات الفتي لهم و بالتالي رفضوه علي الرغم من مؤهلاته العلمية الكثيرة و قبلته جامعة أخري ( لا أتذكر ما هي بالظبط).

قد تقبل ما حدث مع الفتي أو ترفضه و لكن المهم في الموضوع أن أحداً لم ينبهر بمستوي الفتي العلمي و أن هناك عوامل أخري للتقييم. في الجامعات الأمريكية ذات المستوي المرتفع، لا يكفي أن تدفع المصاريف الباهظة و أن تكون لديك شهادات من أي مكان، لابد من تقييمك بناء علي موهبتك، و بناء علي تفكيرك ككل، و بالطبع هذه التقييم يختلف من كلية لأخري، و هذا شيء مقبول من المجتمع ككل. علي الرغم من أن الثانوية العامة لا تساوي شيء من الناحية العلمية إلا أن أحداً لن يقبل أن ترفض كلية من الكليات طالب حاصل علي درجة مرتفعة في الثانوية العامة.

هناك الكثير من المصريين و العرب الذين يذهبون للخارج للدراسة ثم يعودون بالدكتوراه أو الماجيستير، و لابد عزيزي القاريء أنك تعرف واحد أو أكثر من هؤلاء. وسط هؤلاء الكثرة، كم عدد الذين تعرفهم الذين نالوا شهادات من أي من الجامعات التالية: كولومبيا، معهد ماساشوستس للتقنية، هارفارد، برنستون، كامبريدج، كورنيل، ييل، ستانفورد، كالتك؟ العدد لابد أن يكون قليل للغاية.

في هذه الكليات الأمر لا يتوقف علي وضع قواعد لقبول الطلبة و يمتد لقبول المتلحقين بالدراسات العليا و هيئة التدريس. هذه الكليات لا تقبل بهؤلاء المصريين الذين نالوا البكالوريوس عن طريق الحفظ و كتابة ما يرضي أستاذ المادة، و من تقبله من المصريين فإنه يكون من المتميزين فعلياً الذي لا يستطيع أن يعود إلي الكليات المريضة هنا لذا يمكث هناك في الغرب.

الأمر في هذه الكليات عبارة عن منظومة علمية متكاملة، لذا تجد أن جامعة كالتك التي يعمل بها أحمد زويل أستاذاً أخرجت للعالم 20 شخصاً حائزاً علي جائزة نوبل، بالتالي أحمد زويل ليس إستثناء هناك بل هو جزء من القاعدة. الأمر عبارة عن منظومة متكاملة تبدأ بإختيار الأشخاص الذين سيلتحقون بالجامعة بناء علي مواهبهم و تفكيرهم و مستواهم العلمي الحقيقي (و ليس الأوراق التي يحملونها).

هناك مئات من الكليات في أمريكا، عدد قليل من هذه الكليات دخل في التصنيف العالمي. المصريين الذين يدرسون في الخارج يلتحقون بالكليات منخفضة المستوي ثم يعودون إلي مصر و لم يختلفوا كثيراً عن أقرانهم الذين نالوا الدكتوراه من مصر.

حين سافر يوسف القعيد إلي اليابان و في زيارة لأحد الكليات هناك لاحظ أن أحداً من أعضاء هيئة التدريس لا ينادي الآخر بلفظ دكتور. حين إستفسر عن السبب قيل له أن كلمة دكتور تمنح للمرء بناء علي إنجازاته العلمية كلها و تاريخه العملي و ليس بناء علي شهادة نالها فقط، لذا لا ينالها إلا أقل القليل. حين إصتدمت الدولة بمشكلة الوافدين لليابان للدراسة في كلياتها و الذين يريدون العودة لبلادهم بما يثبت أنهم نالوا الدكتوراه أو ما يماثلها إضطروا لإصدار شهادات لهؤلاء الوافدين لا يعمل بها في اليابان !

الجامعات الخاصة

حين كنت في السنة الثالثة في الكلية كنت أقوم بتدريس البرمجة في أحد مراكز الكورسات. كان المركز متعاقداً مع أحد الكليات الخاصة ليقوم بتدريس بعض الكورسات لطلبة كلية حاسبات و معلومات بأسعار مخفضة. في إطار الإتفاقات التي بين المركز و الكلية تم الإتفاق علي أن يقوم المركز بالإشراف علي مشروع تخرج مجموعة من الطلبة في السنة النهائية بالتعاون مع الأستاذ المسئول عنهم، حيث يتم الإتفاق علي عدد من الكورسات التي يحتاجها مشروعهم يتم تدريسها لهم قبل أن يقوم شخص من المركز بالإشراف علي تنفيذ مشروع التخرج و يقدم تقارير دورية للأستاذ المسئول. هذا الشخص كان أنا للأسف.

إستلمت الطلبة بعد أن تم تدريس الكورسات التمهيدية لهم، و كان علي أن أدرس الكورس الرئيسي الذي سيمكنهم (كما هو مفترض) من عمل مشروع التخرج (الذي كان برنامج كمبيوتر يقوم بوظيفة معينة).

إعتدت قبل أن أدرس شيئاً أن أعرف ما الذي سأقوله في هذا الكورس و ما الذي سأتجاوزه، أضع لنفسي جدول بالنقاط التي سأشرحها كل مرة و أراجعها كثيراً لكي أكون منظم التفكير ولا أخرج إلي أمور فرعية. هناك فارق ضخم بين أن تعرف شيئاً و بين أن تشرحه، و تنظيم التفكير نقطة أساسية في التدريس.

لهذا قمت بعمل البرنامج المطلوب بنفسي قبل أن أبدأ التدريس لهم. الطلبة كانوا ستة بالإضافة لثلاثة أرادوا أن يدرسوا الموضوع دون أن يكونوا مشتركين في هذا المشروع. هذا البرنامج الذي كان مفترض من ستة طلبة أن يقوموا به علي مدي عدة شهور أنهيته وحدي في ثلاث ساعات و نصف! المشروع كان بسيط بصورة مبالغ فيها و لكن هذا كان إختيار الأستاذ المشرف (الذي لم أقابله إطلاقاً، فلقد إستلمت هؤلاء الطلبة في المرحلة النهائية و كل ما كان بيني و بينه كان تقارير عن مستواهم أقدمها كل أسبوع).

الطلبة لم يكونوا راغبين في تعلم أي شيء. قمة الإستهتار و اللامبالاة. أنا أيضاً لم أكن أهتم بشيء، أنا أشرح و في النهاية أقدم تقرير، لا أكثر ولا أقل. علي سبيل المثال لم أر أحدهم إلا في المحاضرة الثالثة أو الرابعة تقريباً. لماذا لم يأت المحاضرات السابقة؟ لأنه كان في المصيف طبعاً، الإجابة بديهية! لقد ترك هذا الأخ مشروع التخرج و المحاضرات و ذهب إلي المصيف.

في أحد المحاضرات سألني هذا الأخ: “حضرتك عايز مني حاجة؟” أجبته بكل هدوء : “لا”. قال لي: “سأقف في الطرقة في الخارج، إن إحتجت لي في شيء نادني”. لا مشكلة عندي، أنا لن أكون مثل أساتذة الجامعة المرضي الذين يأخذون الغياب لرغبتهم في أن يروا المدرج مكتظاً أمامهم، من يرغب في الحضور فليحضر، من يرغب في الإنصراف فلينصرف، المهم المستوي العلمي في النهاية، الذي يتحدد من خلال أشياء أطلبها منهم كل أسبوع (أبحاث، أجزاء يكتبونها من البرنامج، الخ). بالطبع لم يكن أحدهم يأتي بشيء لذا كان تقييم معظمهم يذهب للدكتور آخر كل أسبوع صفر. البعض كان يحصل علي درجات مرتفعة مثل 15 من 100 لكن هؤلاء كانوا قلة مندسة. كان هدوئي يثير جنونهم، أنا لا أرفع صوتي، لا أعترض علي أي شيء و لكنهم في آخر كل أسبوع يأخذون أصفاراً.

ما كان يثير غيظ مدير المركز أن الدكتور المشرف لا يبدي أي رد فعل. كل أسبوع يحدثه قائلاً إن الطلبة درجاتهم سيئة فيقول الدكتور في هدوء : “نعم، سنري هذا الموضوع”. و يبقي الوضع علي ما هو عليه.

في النهاية قام واحد منهم فقط بعمل المشروع بينما الأخرون كانوا متفرجين و هو ما كتبته في التقرير النهائي. بالطبع كلهم نجحوا في هذا المشروع و لم يكترث الدكتور لما كتبته فهو غالباً يعرف هذه الحقائق، هؤلاء ما كان لهم أن يمروا من السنة الأولي أساساً و علي الرغم من هذا هم في السنة الرابعة.

أنا لا أحب التعقيد في الجامعات الحكومية، و لكن علي الصعيد المقابل فإن الكليات الخاصة في مصر تنمي لدي الطالب صفة اللامبالاة. أيا ما كان ما يفعله فسينجح في النهاية.

أنا لا أحترم الثانوية العامة ولا أري أنها تقييم سليم للأشخاص، و لكن عدد لا بأس به من ذوي المجاميع المنخفضة في الثانوية العامة حصلوا علي هذه الدرجات المنخفضة بسبب عدم الجدية في المذاكرة. هنا تأتي الكليات الخاصة التي تشبع إحتياج نفسي لدي الناس الذين أكل النفاق الإجتماعي عقولهم، تشبع رغبة ولي الأمر في أن يحمل المحروس إبنه لقب مهندس أو دكتور و رغبة الطالب نفسه طبعاً.الكليات الخاصة لا تهدف إلا للربح، و لكن حين تأتي بهؤلاء الطلبة قليلي الجدية و تترك لهم الحبل علي الغارب، حين تنمي عندهم الشعور بأنه أيا ما كان ما يفعلونه فإنهم سينجحون في النهاية فإنك تسكب النار علي البنزين.

بالطبع هناك إستثناءات، فأنا قابلت شخصاً كان يستغل أنه في كلية خاصة حيث لا توجد قواعد للحضور و الغياب إلي آخر هذا الهراء الذي يملأ الكليات الحكومية ليعمل في شركات البرمجة حيث يكتسب خبرة عملية يدعمها بقرائته و تعلمه بعيداً عن الكلية، ولكن هذا إستثناء. معظم من رأيتهم من خريجي الكليات الخاصة يفتقرون لأدني درجات الإلتزام. أحدهم و هو صديقي من المدرسة لا تستطيع أن تأخذ منه ميعاداً يلتزم به حتي عند الذهاب للسينما! هذا الشخص كان يذهب للإمتحان بعد أن يبدأ بساعة كاملة و يتركه الأساتذة يحضر الإمتحان بدون مشاكل !

الحل

في أمريكا، عدد كبير من الكليات ذات المستوي المرتفع علمياً (مثل معهد ماساشوستس للتقنية) هي مؤسسات خاصة لا تهدف للربح. هذه الكليات تتبع نظاماً إدارياً متشابهاً، حيث يكون لها مجلس إدارة منتخب و لها هيئة مشرفة عليها و علي ميزانيتها. هذا يخرجك من نظام إدارة الجامعات الحكومية بكل ما فيها من سلبيات لا تعد ولا تحصي و يخرجك من فكر الكليات الخاصة التي لا تسعي إلا للربح علي حساب كل شيء آخر. علي الرغم من كثرة المؤسسات الخيرية في مصر إلا أن أحداً لم يفكر في أن ينشيء جامعة تكون مؤسسة لا تهدف للربح.

إن تم إنشاء مثل هذه الجامعة في مصر فلابد من إختيار الطلبة و الإداريين و القائمين علي هيئة التدريس فيها بناء علي المقاييس المنطقية (الأخلاق، الموهبة، المستوي العلمي). بالطبع لن يقبل بهذا الكثير من الناس في المجتمع ولكن التفكير السائد في المجتمع هو الذي أدي لما نحن فيه الآن. إن قامت هذه الجامعة فإن عليها أن تفرض فكرها فرضاً، من قبله كان بها و من لم يقبله فأبواب الجامعات الحكومية و الخاصة مفتوحة للقطيع.

فيما بعد حين تكون لهذه الجامعة إسماً لنفسها و يظهر المستوي العلمي لخريجيها عندها سيتغير بالتدريج تفكير عامة الناس، و سيتحول إتجاه القطيع إلي إتجاه آخر.

هذا في رأيي هو الحل للوضع الحالي للتعليم الجامعي في مصر. ربما أكون حالماً أو مبالغاً، و لكن هذا ما أراه.