بنيامين ريتشارد

“الشخص العقلاني هو الذي يكيف نفسه بحسب العالم من حوله. الشخص الغير عقلاني هو الذي يصر علي تغيير العالم ليصير كيفما يري هو. لهذا كل تقدم البشرية يعتمد علي الغير عقلانيين" جورج برنارد شو.

-—————————————————————————-

في رواية الرجل الراكض لستيفن كينج، نري عالماً مستقبلياً بلغ فيه الترفيه و برامج المسابقات حد الموت، بمعني أن هناك ألعاب مثل (السباحة وسط التماسيح)، حيث يسبح متسابق وسط التماسيح حتي يموت، و مسابقة (السير المتحرك و الدولارات) حيث يعدو مريض بالقلب علي سير متحرك بينما المذيع يسأله بعض الأسئلة، كلما أجاب إجابة سليمة يكسب مبلغاً من المال، كلما أخطأ زادت سرعة السير حتي يسقط بالذبحة الصدرية، و هكذا.

السؤال المنطقي هو ما الذي يدفع أحدهم لقبول الإشتراك في لعبة كهذه.

رحبوا معي ببنيامين ريتشارد، أكثر شخصية تعاطفت معها و شعرت أنها تعبر عني في كل الروايات و الأفلام التي قرأتها في حياتي. بنيامين ريتشارد فقير، زوجته لا تعمل و إبنته الرضيعة مريضة بمرض صدري و لا يستطيع ريتشارد أن يأتي لها بطبيب يكشف عليها لأنه ليس معه أجر الطبيب. من هنا يقرر أن يتقدم للألعاب، يتقدم ليكون موضوعاً لحلقة قد يموت فيها أو يصاب بعاهة بينما الأثرياء يشاهدونه و هم يلتهمون الفيشار ليلاً.

هذا هو ما يدفع الناس للإشتراك في ألعاب الموت، الإنقسام الرهيب في المجتمع بين الأغنياء و الفقراء و هي سمة عامة في كل الروايات نقيضة اليوتوبيا (dystopia)، الروايات التي تري مستقبلاً مظلماً في إنتظار البشرية.

هنا نتوقف قليلاً للحديث عن شخصية بنيامين ريتشارد، الموضوع الأساسي للمقال. يمثل بنيامين ريتشارد نموذج للشخص الذكي النظيف العاجز عن التكيف وسط ما حوله من قاذورات، شخص أقرب للفطرة التي عجز المجتمع أن يفسدها أو حتي يجمل من سلوكياتها قليلاً، عجز عن أن يلبسها قناعاً يجعلها مقبولة بمقاييس هذا المجتمع.

علي سبيل المثال كان ريتشارد يعمل في مصنع، و عندما علم أن هناك تسرباً نووياً يؤثر علي العمال واجه المدير. عندما لا يكترث المدير لأنه لا يتعرض للإشعاع ولا يهتم بالعمال البسطاء الفقراء فالمرء قد يغضب، يقدم شكوي، يقدم إستقالة، و لكن بنيامين ريتشارد فعل أكثر الأفعال بدائية في التاريخ للتعبير عن الإزدراء لهذا المدير: ركله في مؤخرته. لا مجال هنا لكل التصرفات المصطنعة التي يجبرنا عليها المجتمع، هذا شخص حقير بالتالي يركله ريتشارد في مؤخرته و يحكي الحكاية فيما بعد بدون إكتراث، لا فخر ولا ندم بل يتكلم عنها كما تقول أنت أنك أكلت بالأمس فاصوليا علي الغذاء. ملف ريتشارد الوظيفي يضم ست حوادث رفد بسبب مواقف مشابهة.

بنيامين رجل له كرامة، هو يحب زوجته و إبنته و يشعر أنه مسئول عنهم كرجل، حتي لو كان الثمن حياته. هذا من الدوافع المهمة في سلوكياته تجاههما.

في لحظة فراق ريتشارد لزوجته قبل ذهابه ليشارك في الألعاب، كانت جارته تتصنت علي الباب. جارته ثرية تدير صيدلية، و بينما ريتشارد ينزل درجات السلم و زوجته تبكي، خرجت الجارة لتتسلل بجوار زوجته و تهمس في أذنها : “عزيزتي، يمكنني أن أوفر لك بعض البنسلين من السوق السوداء عندما يأتي المال". هذه إمرأة تودع زوجها ربما للمرة الأخيرة بينما جارتها تفكر في المال بهذا الشكل الغير آدمي..

هنا موقف نري فيه جانباً من المجتمع الذي تدور فيه الرواية، مجتمع منقسم بين أغنياء شديدي الثراء و فقراء شديدي الفقر، و كلاهما فسد ضميره و فسدت فطرته، و يظل ريتشارد اللامنتمي، لا هو إستطاع أن يكون ثرياً ولا إستطاع الفقر أن يفسد أخلاقه كما حدث للفقراء من حوله.

ملحوظة علي الهامش، هذا الموقف أحد المواقف التي حذفها د. أحمد خالد توفيق عند ترجمته للرواية علي الرغم من أنها رواية قصيرة من الأساس. د.أحمد خالد توفيق يري أن حذف شيء من روايات كبار الكتاب جريمة لهذا لا يترجم رواياتهم من الأساس بسبب طولها و عدم وجود فرصة لنشرها و لأنه يرفض إختصار مثل هذه الروايات. حسناً،أنا أري أن حذف موقف كهذا جريمة أيضاً، و هذا ليس أول ولا أهم موقف يحذفه من هذه القصة. دعك بالطبع من أني أري أن ستيفن كينج بالفعل من أكبر الكتاب و بالنسبة لي هو أهم و أعمق إنسانياً ألف مرة من شكسبير و من علي نفس درجة شهرته مع إحترامي لكل أساتذة الأدب الإنجليزي، و لكن فلنتجاوز عن هذه النقطة مؤقتاً، رأيي في أهمية الأدباء الإنجليز ليس موضوع هذا المقال، ربما أناقشه في موضع آخر.

عندما يتقدم ريتشارد للألعاب، و بعد سلسلة من الإختبارات و المقابلات إستخدم فيها لسانه السليط في إثارة أعصاب كل من قابله من القائمين علي الألعاب، يتم إختياره لبرنامج الرجل الراكض، و هي مسابقة يهرب فيها ريتشارد في أنحاء أمريكا كلها مطارداً من قبل فريق من (الصيادين). كل ساعة يقضيها هارباً تمثل مبلغاً لأهله و إن نجح في الهروب لشهر كامل ينال المكافأة الكبري (مليون دولار)، لو عثر عليه قبل إنتهاء الشهر يتم قتله فوراً .لو إقتصر الأمر علي هذا لنظرنا للموضوع علي أنه رحلة صيد من التي يقوم بها البشر منذ بدء الخليقة مع إستبدال الطريدة المعتادة بأخري أكثر ذكاءاً و هي الإنسان، و لكن ما يزيد الأمر وحشية هو أن كل من يشاهده و يبلغ عنه ينال مكافأة مادية، بالتالي الأمر يتحول لأمة بأكملها تكرهه و تبحث عن موته و ليس فقط مجموعة من الصيادين.

هنا نري دان كيليان منتج البرنامج، ثاني شخصية مثيرة للتفكير في الرواية. كيليان نموذج للإنسان الذكي البارد الذي يدير كل شيء بعقله بدون أدني دور للمشاعر أو الضمير أو القيم في حياته. في أكثر من مرة كلما مد كيليان يده لريتشارد ليصافحه لا يمد ريتشارد يده ليصافح كليان. هذا منطقي من شخص مثل ريتشارد، و لكن في المقابل فإن كليان لا يبدي تأثراً، و علي مدي القصة نراه مد يده لريتشارد أربع مرات، لا يمل من تكرار المحاولة ولا يتأثر برفض ريتشارد.

يتم إختيار ريتشارد لبرنامج الرجل الراكض هو و واحد آخر من الفقراء، و يقضي بضعة أيام في جناح فاخر في مبني الألعاب حتي اليوم الذي تبدأ فيه المسابقة. يعرض كيليان علي كل منهما أن يعطيه فتاة ليل لتسليته حتي يحين موعد المسابقة و يرفض ريتشارد و يقبل زميله بسعادة هذه اللحظات الأخيرة من المتعة. في هذا الزمن لم تعد عقود الزواج الدائمة مألوفة بل عقود الزواج مؤقتة لعدة سنوات، علي الرغم من هذا فريتشارد تزوج زوجته بعقد زواج مدي الحياة، و في لحظة كهذه مازال مخلصاً لها، مازال نظيفاً علي الرغم من أن زميله الفقير رحب بالفكرة بشدة. هذا من المشاهد التي حذفها د. أحمد بالمناسبة.

في اللحظة الأخيرة قبل إنطلاق المسابقة، يتكلم كيليان مع ريتشارد الكلمات الأخيرة. يقول له"أنا أحبك يا ريتشارد. أنت مازلت خاماً و هو ما يعجبني فيك بشدة. أنا من هواة جمع التحف، تخصصي رسومات رجل الكهف و التحف الفرعونية. أنت أقرب لرجل الكهف منك للأواني الفرعونية. أتمني لو كان يمكن الحفاظ عليك و تصنيفك و عرضك مثل هذه التحف، مثلما أحافظ علي تحفي التي تم جمعها من الكهوف الآسيوية". كيليان أجاد تصنيف ريتشارد، و شرح له لماذا يكرهه الأغنياء الخمقي. كيليان معجب به و لكن هذا لا علاقة له بالعمل، هو معجب به و يحتقر الجمهور و لكن في النهاية هو يعمل في برنامج يهدف في النهاية لقتله.

يهرب ريتشارد و تدور مطاردات عديدة تنتهي بريتشارد علي متن طائرة و معه رئيس فريق الصيادين شخصياً. ريتشارد يهدد بأنه يضع تحت ملابسه شحنة متفجرات ضخمة تم جذب فتيلها لمنتصفه. رصاصة واحدة و يرسل الطائرة بمن عليها إلي القمر.

هنا يكلمه دان كيليان تليفونياً، يخبره أنه أخطأ خطئاً كبيراً عندما ركب الطائرة لأن هذا النوع من الطائرات به نظم خاصة للتعرف علي المتفجرات. مادامت هذه النظم لم تملأ الدنيا صراخاً فمعني هذا أنه لا يحمل معه متفجرات، هو فقط يهدد تهديداً أجوفاً.

علي الرغم من أن رئيس فريق الصيادين علي متن نفس الطائرة إلا أن هذا ليس معناه قتل ريتشارد. ريتشارد حقق حتي الآن رقماً قياسياً في البقاء حياً، و الآن كيليان يعرض عليه أن يكون هو رئيس فريق الصيادين! الضحية التي تجيد الإختباء يمكنها أن تكون صياداً ممتازاً.

ثم يصدمه كيليان بالخبر الهام. زوجته و إبنته قتلا علي يد متشردين إقتحموا الشقة التي يسكن فيها ريتشارد و طعنوهما. المنطقة التي يسكن فيها ريتشارد مليئة بالمشردين و القتلة الذين أفسدهم الفقر، ليس لشبكة الألعاب دخل بهذا خصوصاً و أنه إن قبل منصب رئيس فريق الصيادين يمكنه بسهولة أن يعرف من قتل زوجته و ينتقم منه. ماداموا عرضوا عليه هذا المنصب فهم بالفعل بعيدين عن هذا، خاصة أنهم لن يجنوا شيئاً من قتل زوجته.

هنا يجد أن كل ما حارب من أجله و ضحي من أجله بحياته قد ذهب إلي غير رجعة. أثناء المطاردات كان ريتشارد حريص علي حياته لأن هناك من يأمل بأن يعود لهم يوماً ما، أما الآن فإن كيليان أحمق أن يخبره بأنه قد صار وحيداً تماماً في هذا العالم. يقتل ريتشارد كل من علي الطائرة و يوجهها في النهاية لترتطم بناطحة السحاب العملاقة التي تمثل شركة الألعاب في مشهد سبق أحداث 11 سبتمبر بعشرين عاماً حيث أن القصة مكتوبة عام 1981.

لم تكن مشكلة بنيامين ريتشارد مع فقره أو مرض إبنته فقط بل كانت مشكلته مع كل ما حوله و كل من حوله. كان بنيامين ريتشارد لامنتمي، لا هو غني فيعيش مثل الأغنياء ولا تأقلم مع الفقر و الإنحطاط من حوله فعاش وسطه سعيداً. ظل ريتشارد ذكياً محافظاً علي مبادؤه عاجز عن التكييف مع ما حوله و غير راغب في التكيف من الأساس. ربما لهذا كان ريتشارد خاسراً، لا يمكنك أن تواجه الناس كلها وحدك و تنجح في النهاية ما لم أدهم صبري. الشخصيات التي لا تجد وسيلة للتكيف مع ما حولها من مساويء و تكون المساويء حولها أكبر مما يمكن لشخص تغييره لا تكون شخصيات ناجحة في المعتاد.

ستيفن كينج كاتب غزير الإنتاج. في الثمانينات رأي ناشره أن إنتاجه أكثر بكثير مما يحتمله السوق. أخبره أننا لا يمكن أن نخرج كل بضعة أيام بكتاب عليه إسم ستيفن كينج. لهذا إقترح كينج عليه أن ينشر الكتب بإسم مستعار و إختار إسم ريتشارد باكمان. بعدها شك أحد الصحفيين في أن ريتشارد باكمان هو ستيفن كينج بسبب أسلوب الكتابة، و تتبع حقوق الملكية الفكرية لأحد الكتب المنشورة بإسم ريتشارد باكمان فوجدها بإسم كينج فخرج يعلن الحقيقة للقراء: ريتشارد باكمان هو ستيفن كينج.

يقول كينج إن هناك مباديء ثابتة في تفكيره لا يستطيع أن يكسرها في كتبه، أحد أهم هذه المباديء أن الخير لابد أن ينتصر علي الشر في النهاية، هذه إحدي الخبرات التي تكونت لديه من كل ما رآه في الحياة من حوله. و لكن عندما كتب كينج بإسم مستعار شعر بأنه متحرر من أفكاره و مبادؤه، و خرج بروايات يكسر فيها ما كان يظن أنه ثوابت لا يستطيع الخروج عليها. علي الرغم من أن حقيقة أن ريتشارد باكمان هو ستيفن كينج قد تم كشفها منذ ما يزيد عن عشرين عاماً إلا أن كينج مازال حتي اليوم ينشر كتباً بإسم ريتشارد باكمان لأنه يحب أحياناً أن يتحرر من نفسه و أفكاره و مبادؤه.

هذه الرواية نشرت بإسم ريتشارد باكمان و هي نموذج لكسر المسلمات عند ستيفن كينج، حيث أن الخير لم ينتصر في نهاية القصة. في النهاية لم يستطع بنيامين ريتشارد أن ينقذ إبنته بل و فقد زوجته أيضاً و فقد حياته.

فكرة أن الخير لابد أن ينتصر علي الشر فكرة غير منطقية. الدنيا دار إبتلاء، بالتالي فالشيء الوحيد المضمون في الدنيا هو أن فيها مختلف أنواع الإبتلاءات، سوي هذا لا شيء مضمون حتي إنتصار الخير علي الشر.

لو كان الخير ينتصر دوماً علي الشر لما كان للإبتلاء معني. لو كان الموظف الأمين يصير ثرياً في النهاية لإلتزم الجميع بالأمانة لأنها وسيلة للثروة. لو كان المخاطرون، أولئك الذين يخاطرون بأموالهم أو بأنفسهم في سبيل هدف ما أيا ما كان، نصرة دين أو إنشاء شركة أو إقامة مجتمع، لو كان هؤلاء يفوزون في النهاية لما كان هناك معني للشجاعة و قبول المخاطرة، و لكان الناس كلهم من الشجعان المخاطرين الناجحين. لو كان الخير ينتصر دائماً لما كان هناك معني للحساب يوم القيامة.

الإنتصار الحقيقي هو يوم تري نتيجة عملك أمام الله يوم القيامة، الله سبحانه و تعالي يحاسب الناس علي أعمالهم و نواياهم و ليس علي النتائج. لو كان الحساب بالنتائج فالحسين بن علي الذي خرج بسبعين شخص ليحارب جيش يزيد خاسر، لو كان الحساب بالنتائج لكان معني ما فعله الحسين أنه ضحي بنفسه و أهله و حمل بن أخيه بين يديه و شاهده باكياً و هو يحتضر في سبيل لا شيء.

الحسين بن علي هو أحد أولئك الذين عجزوا عن التكييف، عجزوا عن قبول ما يفعله يزيد بن معاوية مهما كانت النتائج، علي الرغم من أن الكثير من الصحابة رأوا أن يدرؤا الشر و الفتنة عن المسلمين ولا يخرجوا في قتال يزيد، إلا أن الحسين رضي الله عنه لم يفعل مثلهم بل خرج وحده تقريباً في معركة هو موقن أن فيها نهايته إلا أنه خرج لها لأنه لا يملك إلا أن يصدح بما يؤمن به.

-—————————————————————————-

“علم النفس الحديث يستخدم كلمة معينة أكثر من سواها هي كلمة غير متكيف ، بالطبع كلنا يرغب في أن تكون حياته سليمة، لا أحد يرغب في أن يعاني من الشيزوفرينيا و الذهان، و لكن هناك أشياء في مجتمعنا و عالمنا أفخر بأن لا أتكيف معها. أنا لا أنوي أن أتكيف مع الفصل و التمييز العنصري، لا أنوي أن أتكيف مع التعصب الديني، لا أنوي أن أتكيف مع نظم إقتصادية تأخذ الأساسيات من الأغلبية لتمنح كماليات للأقلية”. مارتن لوثر كينج