الله لا يلعب النرد

خرج أينشتاين للعالم بالنظرية النسبية الخاصة و عمره 26 عاماً، ثم خرج بالنسبة العامة و عمره 36 عاماً، ثم مات و عمره 76 عام. السؤال هنا هو لماذا لم يضف أينشتاين أي شيء هام للعلم علي مدي أربعين عاماً كاملة منذ خروجه بالنسبية العامة و حتي وفاته؟

الإجابة عن هذا السؤال تستلزم الرجوع للوراء بضع مئات من السنين.

هناك حلم لدي علماء الفيزياء بالوصول إلي نظرية موحدة Unified Theory تشرح كل شيء، تشرح العلاقة بين القوي المختلفة في الطبيعة (الضوء، الحرارة، الجاذبية، الخ) و العلاقات بينها.

الحلم بدأ من ديكارت الذي رأي في الرياضيات (العلم الشمولي) الذي يشرح كل شيء. نيوتن عارض هذه الفكرة. كان يري إن الرياضيات وسيلة للفهم و لكن العلم الشمولي الذي يمكنه شرح كل شيء هو الميكانيكا، التي تستخدم الرياضيات كأداة. و لكن رأي نيوتن لم يكن علامة مهمة في سبيل تحقيق الحلم. العلامة شديدة الأهمية في سبيل تحقيق هذا الحلم كان قانون الجاذبية الذي إكتشفه. القانون الذي يستخدم لحساب القوة التي تؤثر علي سقوط تفاحة صغيرة من علي الشجرة هو نفس القانون الذي يستخدم لحساب القوي التي تؤثر علي كوكب المشتري أثناء دورانه حول الشمس. هذا هو البداية الحقيقة التي أقنعت العلماء أنه ربما كان هذا الحلم قابلاً للتحقيق بالفعل.

ثاني العلامات الهامة علي طريق الحلم كان معادلات ماكسويل. ماكسويل خرج بأربع معادلات تربط بين الكهرباء التي تسري في سلك و المجال المغناطيسي المتولد عنها و العكس. هذا شخص إستطاع أن يجد العلاقة بين إثنين من قوي الطبيعة التي كانت تبدو منفصلة أو لا علاقة بينها هي الكهرباء و المغناطيسية. هذه خطوة هامة في طريق الوصول لهذا الحلم القديم.

أينشتاين كان يؤمن بفكرة النظرية الموحدة، و كان يكن إحتراماً خاصاً لماكسويل بسبب إسهامه في تحويل هذا الحلم إلي حقيقة. نسبية أينشتاين نفسها كانت إضافة لهذا الحلم لأنها ربطت الجاذبية بالزمن و بينت كيف أن الزمن يمكن أن يتسارع في مناطق الجاذبية الشديدة مثل تلك الموجودة في الثقوب السوداء.

هنا ظهرت مشكلة: نظريات أينشتاين تنطبق فقط علي الأجسام الكبيرة، إلا أنها لا تنطبق علي الأجسام الدقيقة مثل الإلكترون. يمكنك أن تستخدم النسبية لتدرس الثقوب السوداء و لكنك لا يتستطيع أن تستخدمها لدراسة الذرة. إن أردنا أن ندرس الذرة فإن هناك علم وليد هو علم ميكانيكا الكم، و هو علم يستخدم لدراسة الأجسام الدقيقة و لكنه لا يصلح لدراسة الكواكب و النجوم.

بالنسبة لأينشتاين كانت هذه خطوة للوراء، خطوة نعود فيها لإستخدام نظرية منفصلة لكل مجال بدلاً من السير تجاه نظرية موحدة تصلح لتفسير و دراسة كل شيء.

ميكانيكا الكم علم قائم علي الإحتمالات بصورة أساسية. إن كان عندك إلكترون طاقته كذا إصطدم بحاجز من الطاقة صفاته كذا، فإن ميكانيكا الكم لا تخبرك إن كان الإلكترون سيعبر الحاجز أم لا، بل تخبرك بأنه سيعبر الحاجز بإحتمالية معينة، 30 بالمائة علي سبيل المثال. لو إصتدم مائة إلكترون بنفس الحاجز لعبر منهم 30، و لكن لا يمكننا أن نعرف أيهم بالظبط سيعبر و أيهم سيتوقف. كل شيء في ميكانيكا الكم قائم علي الإحتمالات و عدم اليقين، لا شيء محدد تماماً. هناك قانون شهير في ميكانيكا الكم يقول أنك يمكنك أن تقيس سرعة الإلكترون أو تعرف مكانه، لكن لا يمكنك أن تعرف الإثنين في نفس الوقت، إما هذا و إما ذاك. هذا المبدأ إسمه (مبدأ عدم اليقين Uncertainty principle ).

كانت هذه مشكلة أخري لأينشتاين. أينشتاين كان يؤمن بأن خالق الكون كلي القدرة و كلي العلم حتي أنه رفض التصورات الدينية اليهودية و المسيحية المنتشرة في أوروبا لأنه رأي فيها إلها فيه نقائص، يجهل أحياناً و يخطيء أحياناً. عندما سمع أينشتاين عن ميكانيكا الكم و عن أنها علم قائم علي الإحتمالات قال كلمته المشهورة (الله لا يلعب النرد God doesn’t play dice). الله يعلم بالظبط أي إلكترون سيعبر و أي إلكترون سيتوقف، هو لا يتعامل بالإحتمالات. هنا رد عليه هيزنبرج، أحد أشهر علماء ميكانيكا الكم، و صاحب مبدأ عدم اليقين، قائلاً (ربما هو بالفعل يلعب بالنرد Maybe he does).

نحن بشر و لسنا الله. الله سبحانه و تعالي كلي العلم و لكننا نعمل بالوسيلة التي توفرت لنا. إن إستطعنا يوماً ما أن نجد علماً لدراسة الذرة قائم علي اليقين بدلاً من الإحتمالات فبها و رحبت، و لكننا إن لم نجده سنستغل ما وصلنا إليه. كون الله كلي العلم لا يتعارض مع إستخدامنا لعلمنا المحدود. للأسف تعصب أينشتاين لفكرة قدرة الله المطلقة أعمته عن هذا الحل البسيط لهذه المعضلة، أو ربما بسبب الموجة المضادة التي قادها علماء ميكانيكا الكم الذين لم يؤمنوا بقدرة الله الكلية ساعدت علي إتخاذه هذا الموقف المتشدد.

بالتالي رفض أينشتاين علم ميكانيكا الكم كلية. أي طالب في أوائل دراسته الجامعية اليوم في كلية هندسة أو علوم يعرف عن ميكانيكا الكم بأكثر بكثير مما عرف أينشتاين، ليس لأنه أكثر عبقرية منه و لكن لأن أينشتاين رفض حتي أن يقرأ في هذا العلم القائم علي الإحتمالات، و الذي يعد السير فيه بالتراجع عن حلم الوصول للنظرية الموحدة. إعتزل أينشتاين علماء عصره الذين إستخدموا ميكانيكا الكم و إنكب علي نفسه يعمل علي حلم الوصول للنظرية الموحدة حتي مات دون أن يضف شيئاً للعلم. بالطبع ميكانيكا الكم علم ثبتت أهميته. أنت الآن تقرأ هذه الكلمات علي كمبيوتر يمثل ميكانيكا الكم الأساس الرئيسي في صناعة دوائره الكهربية.

اليوم يتساءل الكثيرون عن أين كان علم الفيزياء سيكون اليوم لو إستخدم أينشتاين ميكانيكا الكم و لم يهملها؟ أي إضافات و إكتشافات كان بإمكانه أن يضيفها للعلم و للبشرية؟

يمكنك أن تظن أن العلماء محايدون، يعملون وفق الطرق العلمية الدقيقة و المنطق المحكم دون مجال للأهواء الشخصية و التعصبات و التحيزات، إلا أن العلماء بشر، و التحيز ليس حكراً فقط علي السياسة و الدين بل ربما يكون المرء متحيزاً لتحقيق (حلم فيزيائي)، حتي لو أهمل في سبيل تحقيق هذا الحلم طرق كان بإمكانها أن تضيف الكثير لعلم الفيزياء ذاته الذي يحبه. لا تخدع نفسك فتظن في نفسك أو في الآخرين الحياد بسبب ذكاؤك أو موضوعيتك، نحن فقط (نحاول) أن نكون محاييدين، و لكن في النهاية تذكر أننا بشر و الكمال لله و حده، و حتي أينشتاين لم يكن محايداً.