العوامل المؤثرة في السياسة الأمريكية

بدأت مؤخراً في قراءة كتاب الديبلوماسية (Diplomacy) لهنري كيسينجر بعد تردد طويل. التردد كان سببه أن هنري كيسينجر تقدم بطلب لمنع الحكومة الأمريكية من إخراج الوثائق السرية التي مر عليها 25 عاماً كما هو المعتاد طبقاً للقانون الأمريكي. حين رفض طلبه طالب بعدم إخراج المحادثات التليفونية الديبلوماسية المسجلة و هو ما رفض أيضاً. بالتالي هناك أشياء يرغب كيسينجر في إخفاءها، و حين يكتب كتاباً سيتلاعب بالحقائق، سيظهر ما يروق له و يخفي ما لا يروق له ليقود القاريء للإقتناع برأي معين. في نفس الوقت لا يمكن إهمال كيسينجر بالكلية لأن لديه الكثير من المعلومات و الخبرة التي قد تكون مفيدة.

في رأيي أن أفضل الناس هم من يمتلكون مزيجاً من الذكاء و حب الخير، و شر الناس هم من يمتلكون مزيجاً من الذكاء و حب الشر، و في الطائفة الأخيرة يقع هنري كيسينجر. الرجل خبير سياسي من ناحية العلم (يحمل دكتوراه في العلوم السياسية) و الخبرة و الذكاء، و يمتلك القدرة النفسية التي تسمح له بإصدار قرارات تسببت في وفاة خمسة ملايين شخص في أمريكا الجنوبية، دعك من قراراته المتعلقة بالعرب و إسرائيل.

لكن حين قرأت تعليقات القراء علي موقع أمازون علي الكتاب قالوا أنه كتاب يشرح علم الديبلوماسية منذ القرن السابع عشر و حتي اليوم. الكتاب جيد بإستثناء الأجزاء التي يتحدث فيها عن السياسة الأمريكية. بالتالي فكرت أن أجرب أن أقرأ الكتاب لأستفيد بالأجزاء النافعة و لكنها كانت قراءة حذرة، أقرأ كل عبارة أكثر من مرة و أحاول التفكير فيها خوفاً من أن ينتقل لي رأي أو فكرة مضللة من التي لابد أن يحتويها الكتاب.

للأسف كان الفصل الأول من الكتاب يتحدث عن النظام العالمي الجديد، و فيه تحدث بالطبع عن دور أمريكا و بالتالي فالتضليل بدأ من أول صفحات الكتاب!

أحد أكثر الأخطاء شيوعاً حين الحديث عن السياسة رد كل التصرفات و القرارات السياسة إلي عامل واحد فقط. و هو نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثير من علماء النفس، ردوا سلوك الإنسان كله إلي عامل واحد فقط، سواء كان الجنس عند فرويد أو الوجدان الجمعي عند يونج أو عقدة النقص عند أدلر. سلوك الإنسان تحكمه مئات العوامل المتشابكة، و كذلك السياسة.

في السياسة الأمر يأخذ صورة من إثنين، أولاهما صورة الأحمق المقتنع بنظرية المؤامرة. يمكنك أن تقرأ تعليقات القراء علي الأخبار التي تنشرها قناة الجزيرة علي موقعها و ستجد الكثير من التعليقات التي تأخذ هذه الصورة. أي تحرك سياسي أو عسكري أمريكي هو حملة صليبية صهيونية علي الإسلام و ديار الإسلام - ذات مرة علق أحدهم علي خبر بدء إصدار نسخة مترجمة من مجلة ناشيونال جيوجرافيك و أن العدد الأول يتحدث عن سبب وفاة توت عنخ آمون قائلاً إنها حملة لإعادة فرعنة مصر، و مصر ستبقي بإذن الله مسلمة مهما أراد بها الكائدون- بالطبع الدوافع الدينية أحد الدوافع وراء القرارات السياسية في الكثير من أنحاء العالم و لكنها ليست الدافع الأوحد كما تظهرها تعليقات الكثير من القراء العرب.

الصورة الأخري لرد القرارات السياسية لعامل واحد هي صورة الخبير الذي يجيد صياغة العبارات و تحليل المواقف كيفما يروق له، يظهر ما يشاء و يخفي ما يشاء ليتلاعب بعقلية الناس و يكون رأي معين عندهم، و هذه هي الصورة التي يصنف تحتها حديث هنري كيسينجر عن السياسة الأمريكية في القرن العشرين. سنتحدث بالتفصيل عن تحليل هنري كيسينجر للسياسة الأمريكية لاحقاً في هذا المقال.

في هذا المقال سأتحدث عن بعض العوامل المؤثرة في السياسة الأمريكية، بعض العوامل و ليس كل العوامل. بعض هذه العوامل يقل تأثيره أو يزيد بتغير الوقت أو الأشخاص، إلا أنها كانت أو مازالت سبباً في الكثير من القرارات السياسية التي إتخذتها أمريكا في القرن العشرين.

العوامل الدينية

المذهب البروتستانتي هو مذهب أسسه مارتن لوثر و كالفن إنشقوا به علي المذهب الكاثوليكي في كثير من الأمور. ما يهمنا من هذا المذهب النظرة إلي اليهود و إلي فكرة قيام دولة إسرائيل.

نظر هذا المذهب لليهود بإحترام علي أنهم القوم الذين نزلت عن طريقهم المسيحية، بل إن مارتن لوثر له كتاب إسمه (المسيح يهودياً). هذا يختلف عن النظرة الكاثوليكية القديمة التي تري في اليهود القوم الذين قاموا بصلب المسيح عليه السلام. طبقاً للمذهب البروتستانتي فإن قيام دولة لليهود في فلسطين و إقامة هيكلهم علي أنقاض المسجد الأقصي ضروري لنزول المسيح (عليه السلام) ليحكم الأرض ألف عام تعم الأرض فيهم الرخاء و الأمن و السلام. هم لا يؤمنون بفكرة قيام إسرائيل نفسها بل يؤمنون أنها خطوة هامة تمهيداً لنزول المسيح عليه السلام.

لو أخذنا في الإعتبار أن كل الرؤساء الأمريكيين كانوا بروتستانتيين بإستثناء جون كينيدي و باراك أوباما (كاثوليكيين) لأدركنا أن لهذا تأثيراً كبيراً في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل و تجاه دول أخري (علي سبيل المثال حين إحتلت أمريكا الفلبين في الماضي رفض الأمريكييون إعتبارها ولاية أمريكية أخري لأن معظم سكانها من الكاثوليك).

حتي جون كينيدي الذي لم يكن بروتستانتياً كان حريصاً علي الإقتباس من الأناجيل البروتستانتية في خطاباته علي الرغم من أن زوجته قالت إن الدين كله (سواء البروتستانتية أو الكاثوليكية) لم يكن يمثل بالنسبه له شيئاً هاماً، إلا أن الحرص علي إرضاء الأوساط السياسية الأمريكية يفرض علي المرء إرضاء التفكير البروتستانتي الشائع.

لن أتحدث هنا عن دور اليهود في الإقتصاد الأمريكي و صنع القرارات السياسية لأن ما قيل بهذا الصدد كثير و لن أضيف عليه الكثير.

تفرد التجربة الأمريكية

النموذج الأمريكي نموذج متفرد من حيث تجربته الديمقراطية التي سبق بها الكثير من الدول، في العالم الجديد الذي سمح للكثيرين بتحقيق حياة لم تكن ممكنة في أوروبا و في قدرتهم علي الإستقلال عن أوروبا.

من هنا نظر الأمريكييون لنظامهم السياسي علي أنه أفضل النظم الممكنة. بالتالي تشكل أسلوبين سياسيين في التعامل مع العالم الخارجي بناء علي هذه النظرة: الأول يري أن تعمل أمريكا داخل أرضها علي تحسين نفسها كدولة و شعب و تصبح نموذج و قدوة لباقي العالم، و الثاني يري أن أمريكا من حقها أن تتدخل في أي مكان في العالم لتدافع عن مبادئها (حرية التجارة، القانون الدولي، الديمقراطية، الخ) في أي مكان في العالم.

هذا الفكر ظهر بقوة في مؤتمر السلام الذي عقد في باريس عام 1919 بعد نهاية الحرب العالمية الأولي ليضع فيه العالم نظام عالمي جديد يمنع حدوث حرب عالمية جديدة. في هذا المؤتمر عرض الأمريكييون أفكارهم التي تري أن الصراع في أوروبا كان بسبب فساد السياسة الأوروبية. النظام العالمي يجب أن يقوم علي العوامل الأخلاقية، التعاون بين الدول و الحقوق المتبادلة بينها، و يجب علي الديبلوماسيين الأوربيين أن يكفوا عن إتخاذ القرارات بعيداً عن شعوبهم. لابد من الشفافية التامة و الديمقراطية عند إتخاذ القرارات لتكون معبرة عن آراء الشعوب الأوروبية لا عن آراء الديبلوماسيين الأوربيين. لا فائدة من فكرة الأحلاف العسكرية، الأمن يأتي من خلال التعاون الدولي بين الأمم و بعضها.

بالطبع كان هذا الكلام غريباً علي الأوربيين الذين كانوا يفكرون بمبدأ توازن القوي. هناك عدد من الدول كل منها بقوة عسكرية و سياسية و إقتصادية معينة. من خلال التحالفات يمكن الوصول لنموذج به قوي متشابهة تمنع في المستقبل قيام حروب مماثلة للحرب العالمية الأولي . هذا هو الفكر الأوروبي التقليدي.

السبب في هذه النظرة من جانب الأمريكيين كان سببها بعدهم عن السياسة و الصراعات الدولية. هناك محيطين يفصلان أمريكا عن القوي القديمة (آسيا و أوروبا). أقرب جيرانهم (المكسيك و كندا) لم يمثلوا في ذلك الوقت قوي ذات ثقل عسكري أو سياسي، وبالتالي ظل الأمريكيين قرونا بدون جيران أقوياء و بالتالي لم يتعرضوا لتهديدات أو يدخلوا في حروب، بعكس الأوربيين الذين يطحنون في بعضهم البعض علي مر العصور.

كل الشعوب متساوية و لكن بعض الشعوب متساوية أكثر من بعضها

في رواية (مزرعة الحيوانات) لأورويل قامت الحيوانات بإنقلاب تخلصت فيه من مالك المزرعة و وضعت الحكومة شعار هو “كل الحيوانات متساوية”. تدريجياً وجدت الحيوانات الحاكمة أن هذا الشعار يمنعها من التمتع بإمتيازات خاصة فغيرت الشعار إلي “كل الحيوانات متساوية و لكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من بعضها”.

العامل الوحيد الذي ذكره هنري كيسينجر في تحليله للسياسة الأمريكية هو فكرة أمريكا كنموذج يحتذي، إما بأن تتقوقع علي نفسها و تطور من نفسها أو بأن تفرض نفسها علي العالم الخارجي بمبادئها و نظمها التي هي أفضل النظم و المباديء، و هو بالطبع تحليل يجعلك تنظر للأمريكيين علي أنهم متحمسين مؤمنين بمبادئهم أو علي الأقل نظرتهم السياسية محدودة بسبب قلة خبرتهم السياسية مقارنة بالأوربيين.

ما لم يذكره كيسينجر أن سعد زغلول حين ذهب إلي عصبة الأمم ليطالب بحق مصر في الإستقلال طبقاً للنظام العالمي الجديد و المباديء التي نادي بها ويلسون في مؤتمر باريس لم يأخذ منهم حق ولا باطل. هذه المباديء نادي بها الأمريكييون لتكون بين الدول العظمي فقط، الدول الصغيرة ينظر لها كأداة أو وسيلة فقط، ليس لهم حقوق مثل السادة.

كيسينجر نفسه يستخدم نفس أسلوب التفكير. في نهاية الفصل الأول تحدث كيسينجر عن النظام العالمي الحالي و مستقبله. وضع كيسينجر توقعات لأدوار الدول المختلفة في المستقبل. الطريف أنه لم يتحدث بحرف عن إسرائيل و الشرق الأوسط. هذه أحد النقاط الهامة في السياسة الأمريكية: حين تتحدث عن مباراة لكرة القدم فإنك لا تتحدث عن الإستاد و الكرة نفسها بل تتحدث عن اللاعبين. الشرق الأوسط و إسرائيل هو الملعب الذي يتنافس فيه الكبار، ليس له أهمية بذاته علي الرغم من أن اللعبة لا تقوم بدونه.

حين كان مشرفاً علي تدريب شباب الديبلوماسيين كان كيسينجر يعدهم أن من سيحرز منهم تفوقاً سيرسله إلي الشرق الأوسط. حين سئله أحدهم لماذا الشرق الأوسط بالذات قال “هناك يمكنهم أن يشعروا بقوة بلادهم”. هنا نكتشف أهمية جديدة للشرق الأوسط هو أنه يلعب دور الفاسوخة التي تسمح للأمريكيين بإستعراض عضلاتهم السياسية و العسكرية.

البيزنس

في الجزء الثاني من فيلم الأب الروحي، حين شك زعيم المافيا في أن أحد رجاله خائن قال له أحد مساعديه إن رجالك مخلصين لك فرد عليه قائلاً “كل رجالي هم رجال أعمال”.

الصورة التي ترسمها العبارة لرجال الأعمال هم الأشخاص الذي يبحثون عن المال بغض النظر عن الوسيلة. ربما كانت العبارة صحيحة بالنسبة لكثير من رجال الأعمال الأمريكيين.

أمريكا هي أول دولة تتدخل فيها الشركات في السياسة العالمية بهذا الشكل. من يقرأ السياسة الأمريكية يجد أن خبراء من الشركات العملاقة (البترول، السلاح، البنوك، الخ) دائماً ما يكونوا موجودين بجوار السياسيين أثناء إتخاذ القرارات السياسية و العسكرية. الكثير من رجال الأعمال يمولون مراكز دراسات و إستشارات سياسية و عسكرية خرج منها الكثير من مشاهير السياسيين الأمريكيين مثل هنري كيسينجر، كوندليزا رايس، زجنيو بريجينسكي، الخ.

ليس هذا فقط، بل إن النموذج الأمريكي في إنتاج السلاح الذي يسمح للشركات بإنتاج الأسلحة بدلاً من أن تتولي الدولة ذلك يدفع لتدخل أصحاب مصانع السلاح في السياسة الأمريكية ليخلقوا سوقاً لبضاعتهم غالية الثمن.

مشكلة تجارة السلاح أنه لا توجد فيها بدائل أمام الحكومة الأمريكية مادامت لا تنتجه بنفسها. لا توجد الكثير من الشركات التي يمكنها أن تصنع الفانتوم، لهذا تشتري الحكومة الأمريكية مهما كان السعر.في الإقتصاد يسمي هذا الوضع إحتكار متبادلBilateral Monopoly، حيث لا يوجد سوي بائع واحد و مشتري واحد (الحكومة الأمريكية)، مع فارق أن الحكومة مجبرة علي الشراء عند دخولها الحروب (أو عند دفعها للدخول في الحروب).

في وضع إقتصادي مثل هذا تدخل المفاوضات و التلاعب بالحقائق إلي اللعبة. علي سبيل المثال شكك البعض في قدرات ال F22 مقارنة بال F16، و قالوا إنها لعبة غالية الثمن و أقل في القدرات، كل الهدف منها أن تعرض شركتا لوكهيد مارتن و بوينج أحدث (الموضات) في صناعة الطائرات لتبيعها للحكومة الأمريكية التي لديها بالفعل ما هو أفضل منها و هو ال F16.

بالتالي يمكننا أن نفهم لماذا تشكل تجارة السلاح (في أمريكا خصوصاً) أكثر التجارات ربحاً في العالم. مهما كان السعر الذي تعرض به البضائع فإن الزبون سيدفعه.

بل حتي خارج أمريكا فإن الشركات الكبري الغير أمريكية تتعاون مع الحكومة الأمريكية. نشرت بريتيش بتروليم British Petroleum دراسة عن السيناريوهات السياسية المتوقعة في الشرق الأوسط و كيفية التعامل معها (علي ما أتذكر أحد هذه السيناريوهات كان قيام شكل من أشكال الخلافة الإسلامية). المثير أن هذه الدراسة كانت بالتعاون مع ال CIA. علي الرغم من كون الشركة إنجليزية إلا أنها لم تشترك في الدراسة مع المخابرات الإنجليزية و إشتركت مع المخابرات الأمريكية غالباً لأن أسلوب التعاون بين السياسيين و رجال الأعمال فكرة مألوفة للحكومة الأمريكية دون غيرها من الحكومات.

حتي إسرائيل نفسها يري الكثيرون أنها تمثل فكرة وسيط أمريكا في المنطقة، تماماً مثلما تتخذ الشركات العملاقة وسطاء لها في مختلف دول العالم.

خاتمة

كان هذا ذكر لبعض العوامل التي خطر ببالي أنها مؤثرة في سياسية أمريكا دون باقي دول العالم. بالتأكيد هناك الكثير من العوامل الأخري، و بالتأكيد تأثير كل عامل من هؤلاء يتغير بتغير الوقت و الأشخاص. ربما كانت العوامل الأخلاقية أحد أكثر العوامل التي لم أتحدث عنها هنا و لكن هذا يحتاج موضوع منفصل.