العدد في الليمون

حكي أحمد رجب أن مصطفي أمين أعطاه مقالاً لأحد الكتاب الكبار ليختصره قبل نشره في أخبار اليوم. بعد نشر المقال ثار الأديب لأن مقاله تم إختصاره فقام مصطفي أمين بإجراء تمثيلية أمامه، قام فيها بإستدعاء أحمد رجب و أخبر الأديب أن هذا هو الشخص المسئول عن هذا الخطأ الشنيع. قام مصطفي أمين بتوبيخ أحمد رجب ثم قال له في النهاية ( إنت مرفود). هنا رق الأديب و حاول أن يهديء من غضب مصطفي أمين لكي لا يتحول الموضوع إلي قطع عيش و لكن مصطفي أمين تمادي في التمثيل و أصر علي رفد أحمد رجب.

بعد إنصراف الأديب و هو آسف لما تطورت إليه الأمور إستدعي مصطفي أمين أحمد رجب و سأله عن الحجم الذي إختصر المقالة له. قال له أحمد رجب أنها كانت عشر ورقات فولوسكاب قام هو بإختصارها إلي سبعة، هنا ثار مصطفي أمين ثورة حقيقية لأن هذه المقالة كان يكفيها أن تختصر إلي خمس ورقات فقط !

كان لمصطفي أمين مبدأ هام هو أن يختصر الصحفي المقال و القصة و الخبر حفاظاً علي وقت القاريء، خاصة في ظل المنافسة العنيفة من وسائل الإعلام الأخري مثل الراديو و التليفزيون التي يمكنها أن تقدم للمستمع أو المشاهد الخبر مختصراً مركزاً. لابد من إحترام وقت القاريء و الإرتقاء لمستوي المنافسة الذي تقدمه وسائل الإعلام الأخري. الأديب الذي كتب المقال كان من العهد الذي كانت فيه المقالات تملأ عدة صفحات في الجريدة و لم يكن ليقتنع برأي مصطفي أمين لذا كان لابد من إجراء تمثيلية رفد أحمد رجب للحفاظ علي مبدأ إحترام وقت القاريء و في نفس الوقت عدم إغضاب الأديب.

لم يعد أحد يحترم وقت القاريء أو المتلقي اليوم. ربما لم تعد هناك الكثير من المقالات الضخمة و لكن الزيادة الآن هي زيادة في العدد. الوسائل الإخبارية تمطر القاريء بالكثير من الأخبار التي يكون الكثير منها غير مهم بالنسبة له. علي سبيل المثال ما أهمية أن يعرف القاريء العربي بخبر تحطم طائرة شحن روسية؟ هذا الخبر كان منشوراً علي موقع الجزيرة منذ بضعة أيام و هو نموذج للأخبار عديمة الأهمية التي تغرق وسائل الإعلام اليوم.

الأمر ليس جديداً فقد إنتقده جلال أمين منذ بضعة أعوام، بالتالي أنا لم آت بما لم يأت به الأوائل، و لكن المشكلة تضخمت و إمتدت إلي كل وسائل الإعلام تقريباً و لم تعد تقتصر علي الوسائل الإخبارية فقط. هناك كثرة في كل كل شيء و أي شيء بغض النظر عن أهمية و قيمة ما يقدم.

علي مستوي المقالات فإني أعجب لأولئك الذين يكتبون مقالات في الجرائد بشكل يومي. لا يمكنك أن تأتي بجديد أو حتي تكتب مقالاً جيداً كل يوم. بالتالي لابد لأولئك الذين يكتبون مقالات يومية أن يكتبوا مقالات متوسطة أو سيئة. المشكلة أن البعض منهم قد يكتب مقالاً جيداً في يوم من الأيام لذا يكون علي القاريء أن يتابع المقالات يومياً علي أمل أن يكون مقال اليوم هو مقال ذو قيمة أو يحمل شيء من الفكر و إلا شعر بأن هناك إحتمال أن يفوته شيء ذو قيمة.

في الأدب كل يوم يمكنك أن تجد كتاباً جديداً. الكثيرون شككوا في الإنترنت و المدونات من منطلق أنها وسيلة لكل من هب و دب ليكتب مقالاً و قصصاً و ينشر رأيه،بالتالي لابد أن تحتوي الكثير من الهراء، و ستظل قوة وسائل الإعلام القديمة (الكتب، القنوات التليفزيونية) في أنها تقدم محتوي إحترافي محترم. للأسف الأمر الآن صار متشابها علي الجانبين. كل يوم أنزل فيه إلي المكتبات يمكنني أن أجد كتباً جديدة نشرها أشخاص لم أسمع بهم من قبل. هذه ليست مشكلة، لابد من شخص ما يقدم المواهب الجديدة و كل أديب أو كاتب كان في يوم من الأيام كاتباً غير معروف. المشكلة أنني حين أقرأ الكتاب أجد أنه هراء، ضياع للوقت و المال، و أخرج بسؤال واحد بعد نهاية الكتاب: من الذي سمح لهذا الشخص بالكتابة من الأساس؟

هناك إتجاه عام لدي الناس في السنوات الأخيرة هو عدم التفرقة بين ما هو متاح و ما هو مرغوب. يمكننا أن ننتج موبايل به كاميرا عندها يهرع الجميع لشراؤه و يصير مرغوباً دون أن يتوقف أحدهم ليسأل نفسه عن ما إذا كانت الكاميرا تستحق فرق السعر بين الموبايل ذو الكاميرا و الموبايل الذي ليست به كاميرا وما إذا كان بالفعل بحاجة للكاميرا. نفس الشيء في وسائل الإعلام، الآن يمكننا أن ننقل خبر تحطم الطائرة الروسية للقاريء في الوطن العربي بعد وقوع الخبر بثوان فلننقله إذاً. يمكننا أن ننشر كتباً لكل من تقدم بأوراق عليها كلام بتكلفة مادية بسيطة لذا فلننشر لكل من هب و دب كتباً و يمكن لأي شخص أن يقدم نفسه للناس بإعتباره “الكاتب فلان الفلاني”. إن نجح الكتاب يمكننا أن نطرح منه عدة طبعات أخري بها و إن لم ينجح فلم نخسر كثيراً.

القوالب الجاهزة

كثرة الهراء الذي تقدمه وسائل الإعلام و سهولة النشر هي أحد الأسباب التي تؤدي إلي وقوع الكثير من المقالات و الكتب في قوالب جاهزة مسبقاً، أغلبها الكتابات و المقالات الإجتماعية و السياسية التي تنتقد الوضع القائم سواء إجتماعياً أو سياسياً. نقد الأوضاع الخاطئة عظيم و لكن كل المقالات تقول نفس الشيء تقريباً بدون أن يتطرق أحدها إلي تحليل الظواهر بشيء من العمق أو طرح حل جديد غير مسبوق، فقط هو يقول كل ما قاله الآخرون من قبله و يشعر بعدها أنه قد أدي واجبه كصحفي أو كاتب.

دعك من موجة الإستظراف التي تسود الكتابات اليوم، و فيها يحاول أي شخص أن يستظرف بطريقة لا تختلف كثيراً عن طريقة المراهقين علي المقاهي يوم الخميس ليلاً، و يتم التعامل معه بعدها علي أنه الكاتب الساخر و تعقد له الندوات التي يؤمها الناس للتمتع بحكمته و آراؤه الأدبية و الإجتماعية الهامة. المقالات غير مضحكة و مكررة و لا تقدم أي فكر من أي نوع و بعد قرائتها تخرج بشعور أن نصف مراهقي و شباب مصر يمكن أن يطلق عليهم إسم الكاتب الساخر لو قام كل منهم بتفريغ حواراته مع أصدقاؤه علي المقهي في كتاب.

ذات مرة قرأت الفكرة العامة لإحدي روايات العصابات، الفكرة هي أن بطل القصة جلس ذات مرة في بار، جلس بجواره أحدهم ثم تدريجياً إنخرطا في حوار سوياً. عندما تأهب الرجل للإنصراف أعطي بطل القصة مظروفاً مغلقاً و قال له “أقتلها دون أن يبدو الأمر كحادثة، لا داعي لهذا” ثم إنصرف قبل أن يفهم البطل ما المقصود بالموضوع بالظبط. فتح البطل المظروف ليجد مالاً و صور لإمرأة لا يعرفها و بيانات هذه المرأة. لقد كان الرجل ينتظر قاتلاً أجيراً و ظن خطئاً أن بطل القصة هو القاتل الأجير. فجأة يجد البطل شخص يشببه يدلف إلي البار. إنه القاتل الذي كان علي موعد مع الرجل الغريب. القصة تدور حول محاولة البطل أن يعرف من هذه المرأة و من الذين يرغبون في قتلها و لماذا و محاولة النجاة بنفسه بعد أن صار (يعرف أكثر من اللازم).

هذه القصة مثال للأفكار الرائعة الجديدة التي أجدها في الأدب الغربي ولا أجدها في الأدب العربي. أي قصة يمكن تقسيمها إلي فكرة و معالجة، و عادة ما تكون الأفكار الجديدة في الروايات الغربية و الأفكار المتكررة في الروايات العربية. معظم الرويات العربية روايات إجتماعية أو سياسية و كلها تقريباً تخلو من أي فكرة جديدة أو مبتكرة علي الرغم من القصص الجديدة التي تصدر كل يوم تقريباً.

دعك من الألفاظ الخارجة و المشاهد الجنسية التي يندر أن تجد قصة تنشر اليوم دون أن تمتليء بها، حتي وصل الأمر أن أحد الكتاب الجدد كتب علي الغلاف الخلفي لكتابه أن الذين لا يخطئون ولا تخرج من أفواههم الألفاظ النابية ليسوا آدميين لأنهم لم يخطئوا و لم يواجهوا الله سبحانه و تعالي و هم خجولين مما إقترفته أيديهم. أنا أتفهم أن المرء حين يري شخصاً جيداً يحاول أن يأخذه قدوة، دعك من أن كل إبن آدم خطاء، و لكن هذا كاتب يقدم للقاريء مبرراً لكل القاذورات التي ستجدها في كتابه. بالطبع تصفح سريع للكتاب يريك كم لا بأس به من الألفاظ الخارجة و المشاهد الجنسية.

لن أناقش هنا فكرة المشاهد و الألفاظ الخارجة في الأعمال الأدبية، هذه نقطة إختلف عليها الناس و الكثيرون قد يرفضوا رأيي أو يرفضوا الخلفية الدينية التي سأتحدث منها و لكن من الغريب أن هناك شبه إجماع في الكتابات المنشورة مؤخراً في مصر علي هذا الإتجاه بإستثناء قلة مندسة. حتي في أمريكا بكل ما فيها من إنحراف فكري و عقائدي، هناك كتاب يرفضون المشاهد الجنسية و الالفاظ الخارجة في كتاباتهم بناء علي خلفيتهم الدينية، ربما كانت أشهرهم هي ستيفاني ماير مؤلفة سلسلة الشفق Twilight التي تضع شخصياتها في إطار من التدين و رفض الجنس خارج الزواج و رفض شرب الخمر، الخ فلماذا لم يظهر هنا كاتب وسط سيل الكتاب الذين يمطروننا بكتاباتهم ممن يتبع إلتزاماً دينياً في كتاباته؟ هل المصادفة فقط هي السبب أم أنها فكرة القوالب الجاهزة التي يمكن لكل من يضع كتاباته فيها أن ينشرها في أي دار نشر؟

هل لو تم رفض الكتابات الرديئة أو متوسطة المستوي قد يؤدي هذا إلي محاولة الكتاب تحسين كتاباتهم أو ظهور أشكال أخري من الكتابات أو مواهب جديدة بدلاً من أن يجد مدمني القراءة من أمثالي أنفسهم أمام حل من ثلاثة : قراءة كتب أجنبية (عليها القيمة) أو التوقف عن القراءة إلا عند صدور عمل جيد كل مائتين و خمسين عام أو قراءة ما يطرح في المكتبات من منطلق (هو ده الموجود).

الفلترة

الإقتصادي الشهير جون مينارد كينز قال “إن الناس في الماضي كانوا ينشغلون بكسب الرزق و لكني أعتقد أن أحفادي سينشغلوا بكيفية ملء وقت فراغهم”. كان يقصد أن الإنسان بسبب وسائل الإنتاج الحديثة قد صار لديه وقت فراغ أكثر من الماضي و تدريجياً يزيد وقت فراغ الإنسان. أنا أشعر أن الكثير من وقت الفراغ هذا يقضيه المرء في إستخلاص كل ما له قيمة من بحر الهراء الذي تغرقه به وسائل الإعلام. مواقع مثل جودريدز أو ريدت هي مواقع للتخلص من الهراء، مواقع يحاول المرء عن طريقها أن يبحث عن ما يستحق فعلاً أن يُقرأ أو يُشاهد و يفلترها من وسط الكتب و المقالات التي تنشر يومياً. هذا مجهود يجب أن يقع علي عاتق دور النشر أو وسائل الإعلام عموماً إلا أن مبدأ الفلترة قد تلاشي من أولويات هؤلاء حالياً.