العالم الإسلامي الذي لا تعرفه أمريكا

هناك فكرة سائدة لدي الكثيرين هي أن رجل الشارع الأمريكي لا يعرف الكثير عن الإسلام و المجتمعات الإسلامية، إلا أن السياسيين الأمريكيين يعرفون بلاد العالم الإسلامي جيداً. لديهم مراكز بحثية تدرس العالم الإسلامي، إحصائيات، نظريات، الخ. هذه الفكرة خاطئة في رأيي. هناك كم هائل من الجهل بالمجتمعات الأسلامية في أوساط الساسة الأمريكيين، جهل بالعوامل الإجتماعية و الدينية و التاريخية التي تؤثر في شعوب هذه الدول. في هذا المقال أحاول أن أوضح علامات هذا الجهل و أسبابه و نتائجه. لن أتحدث هنا عن التضليل الإعلامي في وصف الإسلام و المسلمين فهذا يستحق مقالاً أو مقالات مستقلة.

العلامات:

إيران:

في عام 1979 قامت الثورة في إيران و أسقطت الشاه. كان الشاه حليفاً هاماً لأمريكا و كانت لأمريكا مصالح كثيرة في إيران (أهمها البترول) و بالتالي كانت أمريكا تدعم الشاه بكل ما أوتيت من قوة و كان للمخابرات المركزية الأمريكية تواجد مكثف في إيران و كانت الكثير من الدراسات الأمريكية تدور حول الوضع الإيراني. علي الرغم من أن الخميني كان من منفاه يرسل الخطب و الكتب و الدروس التي أشعلت الجماهير علي مدي 14 عاماً حتي قامت الثورة و أسقطت الشاه عام 1979، فإن معظم التقارير الأمريكية المتعلقة بالوضع الإيراني لم تشر إلي الغليان الإجتماعي الذي ظل يزيد حتي تم خلع الشاة. كل التقارير أهملت أهمية الخميني و أهملت العوامل الإجتماعية و الدينية و السياسية التي تجعل نظام الشاه عرضه للإنهيار حتي أفاق الأمريكيين علي نبأ قيام الثورة و خلع الشاه.

علي سبيل المثال في عام 1978، أي قبل قيام الثورة بعام واحد، وصف كارتر إيران بأنها جزيرة إستقرار. في ديسمبر عام 1979 بعد أن تأزم الوضع و خرجت المظاهرات في كل مكان و بدأ التفكك يدب في الجيش الإيراني قدم جيمس بل، من جامعة تكساس و الذي كان يعمل مستشاراً للسياسيين الأمريكيين، قدم نصيحة بأن تبدا أمريكا في تشجيع الشاه علي أن يبدأ في الأخذ في الإنفتاح في نظام الحكم. هذا “المستشار” لم يدرك أن نظام الشاه قد تهاوي و ما هي إلا شهور و يتم طرده خارج إيران بالكلية و مازال يدعو واضعي السياسة الأمريكية إلي دعمه.

حتي حين سقط الشاه ظل الأمريكيين يظنون أنهم أنه مازال بالإمكان إعادته إلي الحكم فإستقبلوه عام 1979 و تجاهلوا رغبة الجماهير الإيرانية في تسليمه لهم و محاكمته علي ما إقترف من جرائم في فترة حكمه، مما دفع بالطلبة الإيرانيين إلي إقتحام مبني السفارة الإمريكية و إحتجاز 52 موظفاً لمدة 444 يوم، سادتها محاولات تحرير فاشلة من جانب الأمريكيين ثم إنتهي الأمر بإعلان الأمريكيين عن إستعدادهم لتسليم الشاه في مقابل الرهائن.

لبنان:

في عام 1982 شجعت أمريكا الغزو الإسرائيلي للبنان بهدف القضاء علي منظمة التحرير الفلسطينية و ظناً منها أن مجيء حكومة موالية لأمريكا في لبنان يمكن أن يغير ميزان القوي السياسية في الشرق الأوسط لصالح أمريكا و يصبغ المنطقة بقدر كبير من الإستقرار. شجع الساسة الأمريكيون هذا الغزو ووصفوه بأنه غزو سهل مثلما وصف غزو العراق بعد ذلك بسنوات، إلا أن شيئاً مما توقعته أمريكا لم يحدث. تسببت الصراعات الطائفية في الكثير من المجازر بين اللبنانيين و بعضهم البعض و بين البنانيين و اللاجئين الفلسطينين، حتي تم تفجير مبني السفارة الأمريكية في بيروت ثم تفجير عربة مفخخة في معسكر للقوات الأمريكية أدي إلي مقتل 241 أمريكي، مما تسبب في إنسحاب سريع غير مشروط أو مخطط له من جانب القوات الأمريكية.

كولن باول وزير الخارجية الامريكي أيام غزو العراق كان وقتها ميجور جنرال في البنتاجون، و قد وصف الدور الأمريكي في غزو لبنان بأنه تورط أمريكي في عش دبابير عمره الف عام، تعبيراً عن الصراعات العرقية و العوامل الإجتماعية و الدينية المؤثرة في الساحة اللبنانية و التي لم يلتفت لها الأمريكيون أو لم يفهموها.

مصر:

ذات مرة قدم ديفيد وولش السفير الأمريكي السابق تصريحاً قال فيه إنه يربي بناته مثلما كان الرسول (عليه الصلاة و السلام) يربي بناته. بالطبع العبارة لا تقنع أي شخص حتي إن كان متخلفاً عقلياً بسبب الخلافات الجذرية بين التوجهات الإسلامية و توجهات ديفيد وولش و أيدلوجياته. المشكلة ليست في العبارة و لكن في إقتناع وولش أن عبارة كهذه قد تقنع أحداً أو قد تساهم في تحسين قبول المسلمين له. بل إن الأمر لم يتوقف هنا بل طالب وولش بتدريس اللغة العبرية في المدارس المصرية مما أثار الناس و أثار الإستجوابات في مجلس الشعب. إن لم يكن يعلم أن طلبه مستحيل التحقيق في مجتمع مثل مصر فإن كفاؤته محل شك كبير في رأيي.

مؤسسة راند:

في عام 2007 قدمت مؤسسة راند الأمريكية للدراسات السياسية و الإستراتيجية تقريراً إسمه “بناء شبكات مسلمين معتدلين”. الهدف من الدراسة نشر الإعتدال الإسلامي كوسيلة لرد العنف الإسلامي الذي لم تفلح الوسائل الأمريكية التقليدية (الحلول العسكرية و دعم النظم الديكتاتورية) في مواجهته. المشكلة أن المسلم المعتدل في نظر كاتبي الدراسة هم المسلمين الذين لا يأخذون الإسلام كمصدر للتشريع و لا يقبل بالكمائن التي تنصب للقوات الأمريكية في العراق مثلاً والعمليات الإستشهادية في العراق و فسلطين. من حق أي شخص أن يأمل في أي شيء، الأحلام لا تخضع لقيود و لكن هل يتصور أحدهم أن تكوين (شبكات) من هؤلاء المسلمين في المجتمعات الإسلامية ممكن علي أرض الواقع، بحيث تصبح قوية و فعالة في المجتمع و تفعل ما فشلت النظم الديكتاتورية العميلة لأمريكا و الآلة العسكرية الأمريكية في تحقيقه؟ هل يتقاضي أحدهم مالاً مقابل كتابة هذا الهراء؟

الأسباب:

النظرة العلوية:

في كتاب الديبلوماسية قال هنري كيسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إن النموذج الأمريكي نموذج متفرد من حيث تجربته الديمقراطية التي سبق بها الكثير من الدول، في العالم الجديد الذي سمح للكثيرين بتحقيق حياة لم تكن ممكنة في أوروبا و في قدرتهم علي الإستقلال عن أوروبا.من هنا نظر الأمريكييون لنظامهم السياسي علي أنه أفضل النظم الممكنة. بالتالي تشكل أسلوبين سياسيين في التعامل مع العالم الخارجي بناء علي هذه النظرة: الأول يري أن تعمل أمريكا داخل أرضها علي تحسين نفسها كدولة و شعب و تصبح نموذج و قدوة لباقي العالم، و الثاني يري أن أمريكا من حقها أن تتدخل في أي مكان في العالم لتدافع عن مبادئها (حرية التجارة، القانون الدولي، الديمقراطية، الخ) في أي مكان في العالم.

علي سبيل المثال، حين أتت الإنتخابات النزيهة في تشيلي بحكومة شيوعية قال هنري كيسينجر أنه لن يقف مشاهداً بينما دولة تتحول إلي الشيوعية لأن شعبها (غير مسئول )،و بناء عليه تدخلت أمريكا و إغتالت وزير الدفاع و سهلت قيام إنقلاب أطاح بالحكومة المنتخبة.

من هنا نري أن هناك نظرة إلي أي مجتمع مبني علي أسس تخالف الأسس الأمريكية أو لا يسعي للوصول للصورة الأمريكية علي أنه مجتمع متخلف، و يتم وضع كل هذه المجتمعات في قالب واحد هو قالب المتخلفين، بدون النظر إلي العوامل الإجتماعية و السياسية و الدينية التي تعطي كل مجتمع تفرداً عن غيره من المجتمعات.

الأسوأ من هذا هو النظر إلي كل المجتمعات (المتخلفة) علي أنها ملك لأمريكا تتصرف فيها كيفما شاءت، فعندما تحولت الصين إلي الشيوعية في الأربعينات كثر الحديث عن السبب في (ضياع الصين من أيدينا) و حين قامت الثورة في إيران ظهرت بالمثل عبارة (ضياع إيران من أيدينا) بكثرة في الإعلام. حين تنظر إلي مجتمع علي أنه شيء ملك لك فإنك لا تبحث عن العوامل المختلفة التي أنشئت هذا المجتمع و تعطيه تفرداً عن غيره من المجتمعات إلا في النقاط الهامة بالنسبة لك. الأمريكيين يعرفون كمية البترول التي كانوا يأخذونها من إيران إلا أنهم لا يعرفون أن الإسلام يرفض الظلم و يرفض الإنصياع للتشريعات الوضعية و كيف يمكن أن يمثل هذا دافعاً لثورة تطيح بالشاة و بالنفوذ الأمريكي في إيران.

حين قام الإيرانيون بإحتجاز موظفي السفارة كرهائن لم يتحدث أحد في أمريكا عن التاريخ الطويل من الظلم الذي قام به الشاه و عمليات القتل و التعذيب التي قام بها السافاك (جهاز الأمن الإيراني) في عهده، و عن الدعم الأمريكي للشاه و الإمتيازات الأجنبية التي منحها الشاه للأمريكيين و التي عبر عنها الخميني بقوله “لو أن طباخ الشاه قتل كلباً في أمريكا لحاسبه الأمريكييون و لكن لو قتل أمريكي الشاه نفسه لما حاسبه أحد”. حين تم إحتجاز الرهائن قال كارتر إن شكاوي إيران من الولايات المتحدة تعتبر تاريخا عفا عليه الزمن - علي الرغم من أن الشاه كان وقتها في أمريكا، أي أن الأمر لم يصر تاريخا بل هو حاضر- ولا يهم الآن سوي أن الإيرانيين إرهابيون و ربما كانوا علي مر الدهر أمة إرهابية بالنية و المقصد إن لم يكن بالفعل، و أضاف أن كل من يكره أمريكا و يحتجز رعاياها رجل خطر مريض تجاوز العقلانية و تجاوز الإنسانية و دماثة الخلق البسيطة.

هكذا تم تلخيص تاريخ من الظلم الأمريكي و العوامل الدينية و الإجتماعية و السياسية في فكرة أن إيران أمة أرهابية و أن كل من يكره أمريكا مجنون.

و لنقارن مثلاً فهم الساسة الأمريكيين لإسرائيل علي سبيل المقارنة بإيران، حيث أن كلتاهما دولة قامت علي أسس دينية بينما لا ينظر الأمريكيين إلي إسرائيل علي أنها (ملك لنا) بل علي أنها (حليف لنا).

حين كان هنري كيسنجر يتحدث إلي الساسة الإسرائيليين منتقداً السياسة الإسرائيلية بأي شكل أو ناصحاً بتقليل نشاطها الإحتلالي كان يصيغ عباراته علي أنها قادمة من البيت الأبيض و ليست منه، و يصيغها بشكل المتعاطف مع إسرائيل و القضية الإسرائيلية و علي أنه مجرد ناقل لوجهة نظر البيت الأبيض. هنري كيسنجر كان معروفاً بقوته و نفوذه و ولعه بفكرة القوة الشخصية و قوة أمريكا كدولة تملي إرادتها فلماذا هذا الأسلوب المتعاطف المتخاذل حين يتحدث مع الإسرائيليين؟

هناك مبدأ هام في الفكر الصهيوني أتي به المفكر الصهيوني فلاديمير جابوتنزكي عام 1926، هو أن علي كل يهودي أن لا يكتفي بالتبرع المالي بل يأتي و يشترك معنا في المسئولية. من يتبرع بالمال من اليهود لإنشاء إسرائيل يمكن أن ننظر له علي أنه زميل لنا، و لكن العمل السياسي من أجل إنشاء الدولة اليهودية هو ما يسمح لشخص ما أن يسمي نفسه صهيوني. من هنا هناك فكرة لدي كثير من الصهيونيين أن أي يهودي من يهود الشتات عليه أن يدعم السياسة الإسرائيلية دعماً تاماً أو يخرس، و هي فكرة رئيسية لدي حزب الليكود مثلاً.

حين أعلن نتنياهو (رئيس حزب الليكود) عن إنشاء مستعمرات إسرائيلية في نفس الوقت الذي أرسل فيه أوباما نائبه جو بايدن لمحاولة دفع عملية السلام ، قال ديفيد أكسلرود مستشار أوباما أن ما حدث كان تحدياً بل كان إهانة. هنا إنتقد عدد من المحللين الأمريكيين عبارة ديفيد أكسلرود لأنه يهودي! إن كنت تريد أن يستمع الإسرائيليون لك و أنت تنتقد ما يفعلون فلا يجب أن يأتي هذا الإنتقاد من يهودي، و ربما كان هذا وراء إرسال أوباما هيلاري كلينتون (المسيحية) بعد هذه الواقعة لتجتمع بنتنياهو لتثنيه عن قراره لأن هذا لن يولد عنده ذلك الرفض الهستيري للإنتقاد الذي يأتي من يهودي، و لهذا كان هنري كيسنجر (اليهودي) يصيغ إنتقاداته علي أنها قادمة من البيت الأبيض و أنه يتفهم موقف الإسرائيليين و أنه ليس إلا رسول.

بالتالي الأمريكيين يفهمون إسرائيل لأنهم ينظرون لها علي أنها شريك و ليست شيئاً يملكونه.

المشكلة أن الدول المتخلفة تمتلك أشياء مهمة (هي النفط) و في عام 1974 تسببت أزمة النفط في ظهور كابوس في نفسية ووجدان الأمريكيين هي فكرة أننا قد نكون تحت رحمة المتخلفين، فإقترنت فكرة التخلف بفكرة التهديد و تحولت صورة الشرق من متخلفين إلي همج وحشيين لا يهمهم إلا إيذاء الأمريكيين.

عدم وجود خبراء

لم يكن للأمريكيين صلات بالشرق حتي القرن التاسع عشر إلا علي نطاق محدود للغاية. و في مجال الدراسات لم يكن الشرق مثار إهتمام الأمريكيين قبل الحرب العالمية الثانية، و بالتالي يفتقر الأمريكيون إلي ما كان لدي المستشرقين الأوربيين من ثقافة و فكر (علي الرغم من أخطاء الكثير من هؤلاء المستشرقين و تضليلهم). قد يبدو الأمر جزء من صورة كبري من إنحدار مستوي دراسات العالم الإسلامي في الغرب ككل، فحتي بالنسبة للأوربيين فإن الدراسات الإسلامية اليوم تدور في دراسة المذاهب الفقهية في القرن العاشر أو العمارة في المغرب العربي في القرن التاسع عشر أو أي شيء مماثل دون ذلك الإلمام الشامل بالعوامل الإجتماعية و الثقافية و الدينية و التاريخية المؤثرة في تكوين الشعوب الإسلامية، و لكن بالإضافة لهذا فإن الأمريكيين يفتقرون إلي الدراسات القديمة القيمة التي خرجت من أوروبا ذات يوم.

حين نوت فرنسا إحتلال الشرق جاء نابليون معه بعدد من العلماء لدراسة مصر، و حتي حين فشلت حملته تولي سلفستر دي ساسي المستشرق الشهير رعاية المؤسسات الفرنسية للدراسات الشرقية مما ساعد في إحتلال فرنسا للجزائر فيما بعد. لا يمكنك أن تجد “مستشرق” أمريكي ذائع الصيت في مجال آخر سوي الإستشراق بعكس مسشرقي أوروبا الذين كانوا معروفين بالتميز الفكري العام في أمور الأدب و الإجتماع و اللغة و ما شابه. معظم مستشرقي أمريكا إنتاجهم الفكري لا يلاقي إقبالاً من الجماهير و الكثير منهم من رجال الجيش أو السي آي أيه السابقين، و لا تجد عند أحدهم ذلك العمق الفكري أو التميز الثقافي المطلوب من شخص يدرس شعباً.

علي الرغم من هذا فإن هذا لا يمنع من إعتبارهم “خبراء” يتحدثون عن لا منطقية الفكر الإسلامي و ولع الشيعة بالإستشهاد و يؤثر رأيهم في الرأي العام الأمريكي و في صناعة القرارات السياسية.

المثير أن الكثير من “الخبراء” الأمريكيين بل و مراسلي الصحف الأمريكية الشهيرة لا يتحدثون لغات الشرق (العربية و الفارسية)، إلا أن هذا لا يمنع الحديث عن “المراوغة و التضليل في اللغة الفارسية” في وسائل الإعلام الأمريكية أو عن أن شهر محرم الذي يحتفل به الشيعة هو الشهر الذي أعلن فيه الرسول (عليه الصلاة و السلام) تحديه لقادة العالم أجمع كما قال راندي دانيلز رئيس بلدية نيويورك و نائب رئيس جامعة نيويورك في حوار مع إذاعة كولومبيا، في حين أنه الشهر الذي يحيون فيه ذكري وفاة الحسين (رضي الله عنه).

العقلية المادية و صعوبة فهم الدوافع الدينية

لاحظ د. جلال أمين ولع الأمريكيين بالقياس. الأمريكي لا يقول إن فلان طويل بل يقول إن طوله كذا قدم، لا يقول مدينة كذا بعيدة بل يقول الذهاب لها يأخذ كذا ساعة بالسيارة. كل شيء عنده مقاس و محدد. المشكلة هنا تنشأ من أن العوامل الدينية لا يمكن قياسها، إذ كيف يمكنك قياس مقياس تدين المرء؟ ما المكسب المادي الذي يكسبه المرء من الإستشهاد؟ لماذا لا يطلب الخميني مطالب مثل مطالب الشاه، أن يكون له الملك و الأموال في بنوك العالم و الحياة الرغدة و السلطة و النفوذ و يطالب بأشياء غريبة هي حق شعبه في حياة تحكمها قواعد دينية و يطالب برد المظالم التي تعرض لها شعبه علي مدي سنوات؟

نفس الشيء واجه الأوربيين قديماً عندما وصفوا الجيوش الإسلامية و إستبسال المسلمين في قتالهم و عدم إهتمامهم بالمكاسب المادية و بعدهم عن التخريب و المذابح الوحشية المعتادة في كل الحروب. علي سبيل المثال حادثة حرق السفن التي قام بها طارق بن زياد و هي حادثة ملفقة لم تذكر من أي مصدر إسلامي موثوق به بل وردت من الكتابات الأوروبية القديمة، إذ لم يستطع الأوربيين فهم الوسيلة التي يتغلب بها عشرة آلاف مقاتل بسيطوا التسليح من المسلمين علي مائة الف من القوط المسلحين تسليحاً جيداً. هناك شيء إسمه توفيق الله سبحانه و تعالي و هناك شيء إسمه الدوافع النفسية التي يخلقها الدين في النفوس و هي أشياء لا يستطيع الأمريكيين فهمها.

خاتمة

عدم معرفة الأمريكيين بالشرق لا تعني خيراً بالضرورة، فعلي الرغم من أن أمريكا لم تستطع أن تنتصر في العراق بسبب عدم معرفة جيدة بالظروف الإجتماعية و الدينية و التاريخية في البلد فإن أحداً لا يستطيع أن يقول أن الأمر أتي بخير للعراق كذلك. في نفس الوقت فإن معرفة الفرنسيين بالشرق سهل لهم إحتلال الجزائر. سلفستر دي ساسي المستشرق الذي تحدثنا عنه من قبل كان مستشاراً للجيش الفرنسي و لوزارة الخارجية و كان يتولي ترجمة بيانات الجيش الفرنسي إلي الجزائريين.

المعرفة أو عدمها ليست شيئاً جيداً حين تكون نية عدوك إيذاؤك. ما ذكرته هنا كان مجرد وسيلة لنفهم كيف يفكر الآخر و ما هي العوامل التي تحكم قراراته.

علي عكس ما يراه البعض فإني لا أري فكرة أن نحاول أن نوضح أنفسنا كشعوب لها تاريخ و فكر و عوامل إجتماعية و دينية للأمريكيين و الغرب عموماً، أو علي الأخص للسياسين و الإعلاميين و صناع القرار. قد أقبل أن نحاول تغيير الصورة لدي الشعوب التي تخضع لتضليل إعلامي كتبت فيه الكثير من الكتب، و لكن لا يكون الكلام للصفوة و صناع القرار و صناع الرأي العام، فالمشكلة ليست قلة معلومات بل هي عدم الرغبة في البحث عن هذه المعلومات. لا يمكن لشخص يري في نفسه العلوية أن يستمع إليك و ينظر إليك كإنسان. قبل أن يفهمنا الأمريكيون فإن عليهم أن يقتنعوا أنهم ليسوا النموذج الأمثل للدولة و أنه لا يجب علي الآخرين السير في طريقهم ليكونوا شعوباً جديرة بالإحترام و الأهم من هذا أنهم لا يملكوننا.