السيطرة علي الجماهير

حتي وقت قريب كنت أنظر لفرويد علي أنه نصاب لا داعي لقراءة ما كتبه إلا بغرض الرد علي من يؤمنون بما كتبه. ما كنت أعرفه هو أن أهم ما فعله فرويد هو أن رد الكثير من سلوكيات البشر إلي دوافع جنسية. كان هذا خطأ مني لأن فرويد له بعض النقاط الهامة التي أضافها لعلم النفس و التي لا يمكن إعتبارها هراء بالكلية، نقاط بخلاف رد كل سلوكيات البشر إلي دوافع جنسية، إلا أن كل من تحدث عن نظريات فرويد ركز علي نقطة واحدة و أهمل الباقي.

علاقات عامة

في أثناء الحرب العالمية الأولي دخلت أمريكا الحرب بهدف نشر الديمقراطية في أوروبا و تحرير المواطن الأوروبي ( أو هذا كان الهدف المعلن في وسائل الإعلام). قامت أمريكا بإنشاء هيئة مسئولة عن الترويج للدور الأمريكي في الحرب في وسائل الإعلام. أحد أعضاء هذه اللجنة كان إدوارد بيرنيز.

كان بيرنيز يمت بصلة قرابة مزدوجة لفرويد. فرويد كان خاله و زوج عمته في نفس الوقت، و قد هاجرت أسرة بيرنيز إلي أمريكا إلا أنه ظل علي إتصال بخاله في النمسا.

اللجنة التي كان بيرنيز عضواً فيها أثبتت نجاحها. عندما إنتهت الحرب العالمية الأولي و ذهب الرئيس الأمريكي ويلسون إلي أوروبا تم إستقباله كالأبطال بالمهرجانات و المظاهرات الجماهيرية الحاشدة. فكر بيرنيز أنه إن كان الإعلام قد حقق هذا النجاح وقت الحرب فإنه يمكن إستغلاله لتحقيق أرباح مالية أثناء السلم.

أنشأ بيرنيز مؤسسة لتقديم الإستشارات التسويقية للشركات. عند تأسيسها حاول بيرنيز أن يبتعد عن كلمة دعاية لأنها كلمة مستخدمة كثيراً في الحرب، لذا إخترع كلمة (علاقات عامة). سمي بيرنيز المؤسسة (مجلس العلاقات العامة).

من أهم ما جاء به فرويد فكرة العقل الباطن، فكرة أن هناك دوافع خفية تتحكم في سلوك الإنسان في معظم الأحيان، دوافع قد تكون جنسية أو الرغبة في الشعور بالتميز عن الآخرين أو الرغبة في الشعور بالإستقلال، الخ. إقتنع بيرنيز بآراء خاله و إستخدمها في الدعاية لأول مرة.

قبل ذلك الوقت كان التسويق قائم علي وظيفة السلعة و حاجة الإنسان لها. كان من المعتاد أن توصف السلعة بأنها قوية التحمل أو طويلة العمر أو ناعمة الملمس، الخ. هنا خرج بيرنيز بفكرة أن يلعب التسويق علي النزعات الخفية لدي البشر لمحاولة إشباعها. لا تصف السلعة من منطلق الوظيفة التي تؤديها، ليس من الضروري أن يكون المرء محتاجاً للسلعة لكي يشتريها، علينا أن ندفعه دفعاً للشراء عن طريق إشعاره أن شراؤه هذه السلعة سيتسبب في أن (يشعر بأنه أفضل)، و بالتالي نتحكم في الجماهير و ندفعها للإستهلاك دفعاً. تأمل الإعلان المنتشر حالياً و الذي يظهر فتيات يلقين بأنفسهن أمام الفتي لأنه إستخدم كريم شعر معين، الإعلان لم يتحدث عن مميزات هذا الكريم، فقط هو ربط بين سلعة معينة و الرغبات الجنسية لدي الناس. هذه هي فكرة بيرنيز التي خرج بها منذ ما يقرب من تسعين عاماً.

ذات يوم جاء جورج هيل مدير مؤسسة التبغ الأمريكية لبيرنيز ليخبره أن هناك مشكلة. لم يكن تدخين المرأة مقبول إجتماعياً في أمريكا في ذلك الوقت مما يعني أن مصنعي السجائر يفقدون نصف زبائنهم (أو من يمكن أن يكونوا زبائنهم). هنا خرج بيرنيز بفكرة شيطانية. في أثناء دورة الألعاب الأوليمبية المقامة في أمريكا في ذلك الوقت، أقنع بيرنيز عدد من سيدات المجتمع الأمريكي أن يخرجن في مسيرة جماعية و هن يدخنن. حين ظهرت الصور في الجرائد ظهرت بتعليق يقول أن عدد من نساء المجتمع تمردن علي سلطة المجتمع و ظهرن أثناء دورة الألعاب و هم يحملن (مشاعل الحرية). هنا لا يصير التدخين تدخيناً بل هو تعبير عن حرية المرأة و خروج من ربقة المجتمع، و ترتبط المرأة المدخنة في الأذهان بتمثال الحرية الذي هو إمرأة تحمل (مشعل الحرية). تدريجياً إنتشر التدخين بين النساء و بالطبع إزدادت أرباح مصنعي السجائر.

بيرنيز أيضاً كان أول من إستخدم الممثلين و الممثلات في التسويق للسلع، لاعباً علي الرغبة الدفينة لدي الناس أن يكونوا مثل هؤلاء المشاهير. إن إرتديتي سيدتي هذه القبعة فإنك تكونين مثل الممثلة فلانة. إن إستخدمتي هذه العطر ، إن إرتديتي هذا الحذاء، الخ، فإنك تصبحين مثل نجمة السينما فلانة. لا تتحدث عن متانة الملابس أو جودة الأقمشة أو جمال التصميم، فقط أذكر أن فلان يرتدي هذه الثياب و سيشتريها الناس بغض النظر عن حاجاتهم الفعلية لملابس جديدة و بغض النظر عن إتفاق هذه الملابس مع أذواقهم.

في عام 1924 إستدعي الرئيس الأمريكي كالفن كوليدج برنيز ليساعده لأن شعبيته وسط الجمهور في إنحدار و الصحافة تسخر منه طوال الوقت. هنا أقنع بيرنيز 34 نجم و نجمة من ممثلي السينما بأن يزوروا الرئيس في البيت الأبيض، و قد ركزت الصحف علي هذه الزيارة و بالطبع رفعت من شعبية الرئيس. هذا الأسلوب ما زال متبعاً حتي اليوم، حيث يظهر المرشحين لإنتخابات الرئاسة بجوار الممثلين في حملاتهم الإنتخابية. تذكر أن مايكل مور في فيلمه 911 فهرنهايت كان مغتاظاً من تغطية وسائل الإعلام لتصريح بريتني سبير بأنها تثق بالرئيس بوش و سياسته. بريتني ليست خبيرة سياسية أو إقتصادية أو عسكرية حتي يكون رأيها السياسي له هذه الأهمية في وسائل الإعلام. بيرنيز هو من إبتكر هذا الأسلوب الذي ما زال يثبت نجاحه حتي اليوم.

كان بيرنيز و سياساته التسويقية حلاً لمشكلة تؤرق رجال الأعمال الأمريكيين هي زيادة الإنتاج أكثر من حاجة الناس بسبب إنتشار الآلات في الصناعة. بول مايزر، أحد المديرين في بنك ليمان براذرز و الذي إستعان بخدمات بيرنيز، قال “علينا أن ننقل أمريكا من ثقافة الإحتياجات إلي ثقافة الرغبات. يجب أن يعتاد الناس أن يشبعوا رغباتهم، أن يشتروا أشياء جديدة قبل أن يستهلكوا القديم. يجب أن نشكل عقلية جديدة في أمريكا، رغبات الإنسان يجب أن تحجب إحتياجاته الفعلية”.

فيما بعد صار إستخدام علماء النفس إتجاهاً في التسويق. ظهر علماء مثل إرنست ديتشر الذي أنشأ معهد الدراسات التحريضية Institute of motivational research ، و هو مركز أقيم ليبحث الدوافع الخفية لدي المستهلكين. ديتشر هو الذي إبتكر فكرة مجموعات التركيز Focus groups، و هي لقاءات كان يعقدها لأشخاص عاديين، و يطلب منهم فيها أن يستخدموا منتجاً ما (كأن يدعوهم للغذاء و يري كيف يستخدم الناس نوع جديد من الكاتشب). كان ديتشر يتحدث معهم و يراقبهم (أحياناً من خلال كاميرات مراقبة) و يطبق أساليب التحليل النفسي عليهم و يقدم النتائج للشركات و المؤسسات.

هناك حالة جديرة بالذكر لشركة بيتي كروكر التي كانت تقدم نوعاً من الكيك سريع التحضير. كل الدراسات قالت أنه سيلاقي قبولاً رائعاً في السوق إلا أنه لم يلاقي القبول المنتظر. هنا تدخل ديتشر من خلال مجموعات التركيز، ليكتشف أن النساء كن يشعرن بالذنب إن إستخدمن هذا الكيك لأنه يشعر الزوجة أنها لم تتعب من أجل أسرتها، لم تقم بالطهي، فقط هي أضافت الماء إلي الكيك و وضعته في الفرن. إقترح ديتشر أن تعدل الشركة من تركيبة الكيك ليتطلب من الزوجة ان تضيف إليه بيضة أثناء إعداده و أن تركز علي هذا الجزء في الحملات الإعلانية و كانت النتيجة أن الكيك قد راج في الأسواق بشدة ! البيضة التي تضيفها الزوجة تشعرها أنها طهت شيئاً ما لأسرتها بدلاً من مجرد إضافة الماء و الحصول علي الكيك بدون جهد يذكر.

ديتشر أيضاً كان المسئول عن نموذج باربي الذي قام فيه بدراسة نفسية الأطفال و كيفية تلاعبهم بالدمي و بناء عليه وضع تصوره للدمية فائقة الشعبية.

ماذا عن بيرنيز نفسه؟ ماذا عن الشيطان الذي بدأ كل هذا، كيف كانت شخصيته؟ ماذا كانت نظرته لنفسه و للناس و المجتمع؟

في لقاءات مسجلة معه لوسائل الإعلام يحكي بيرنيز ما فعله بمنتهي الفخر. يحكي كيف تلاعب بعقول الناس لينشر التدخين وسط النساء، كيف إستغل نظريات خاله ليدفع الناس للإستهلاك. هو لا يخجل من ما فعله بل يتحدث بفخر التلميذ الذي أحرز الدرجة النهائية في إمتحان الإملاء. هو شخص ليس لديه أي معيار من أي نوع، لا توجد معايير إجتماعية أو أخلاقية أو دينية، كل ما يملأ حديثه هو الكسب المادي و فخره بمهارته في التلاعب بالعقول. في هذا المقال سنعود لنقطة فقدان المرجعية أكثر من مرة.

لم يكن بيرنيز جذاب إجتماعياً. الفاظه لم تكن واضحة، منظره مضحك، و لم يكن يمكنه أن يتحدث مع ثلاثة أشخاص مجتمعين، إلا أنه يمكنه أن يفهم تفكير الناس حين يتصرفون كجمهور يقدر بالآلاف و يمكنه أن يتحكم فيهم.

كان بيرنيز ينظر للناس كلهم علي أنهم أغبياء. هذا منطقي، مهنة الإنسان تؤثر علي تفكيره و شخصيته. الطبيب الذي يري الأمراض يومياً دائماً ما يقفز ذهنه لأسوأ الإحتمالات إن ظهرت عليه أو علي أحد معارفه أعراض مرضية بسيطة، فكيف يمكن أن ينظر إنسان للناس حين تكون وظيفته أن يتلاعب بعقولهم؟ تقول إبنته أنه دائماً ما كان يصف الناس بأنهم أغبياء. كل من يحتك به في العمل أو في المجتمع غبي. إن قام أحدهم بآداء أي عمل بطريقة تختلف عن طريقته هو فهو غبي، و بالطبع الجماهير أغبياء.

بالطبع كان بيرنيز شديد الثراء و كان نجم مجتمعات، كل الناس تحاول أن تتقرب منه، سياسيين، رجال أعمال، رجال إعلام. هذا هو الساحر الذي يمكنه أن يقود الجماهير و دفعها لفعل ما يقول العقل و المنطق أنه مستحيل.

هنا أود أن أشير لملاحظتين هامتين.

الأولي هي أنه عند دراسة سلوك المجتمعات و الدول فيما يتعلق بالبيزنس، لاحظ الدارسون أن دول جنوب شرق آسيا يفتقرون للإبتكار. دائماً ما تأتي الإختراعات من أمريكا و الغرب، ثم يثبت الأسيويين (اليابانيين علي وجه الخصوص) براعة في تطبيق ما إخترعه الغرب و تصنيعه بكفائة و إتقان عالي. اليابانيين لم يخترعوا الترانزيستور إلا انهم متفوقين في صناعة الإلكترونيات، لم يخترعوا السيارة إلا أنهم متفوقين في صناعة السيارات، الخ. الأوربيين و الأمريكيين يتساوون علمياً تقريباً. كلاهما ساهم في الإبتكارات العلمية و كلاهما لديه المستوي العلمي الراقي. ما يتفوق فيه الأمريكيين هو قدرتهم علي تحويل هذا العلم إلي مال، قدرتهم علي توليد بيزنيس من النظريات و الإختراعات العلمية حتي تلك النظريات التي جاءت من أوروبا في الأصل.

بيرنيز تأكيد لهذه النظرية، فهو أمريكي إستغل ما توصل إليه أوروبي (فرويد) في توليد المال من الهواء. لا يخطر ببال أحد أن يستغل نظريات علم النفس في كسب المال إلا أن بيرنيز بالعقلية الأمريكية إستطاع أن يلمح الفرصة التي يمكنه من خلالها تحقيق المال.

الملحوظة الثانية التي لفت مصطفي نظري لها هي أن معظم من وضعوا قواعد علم التسويق و الإدارةحديثاً - و هي مجالات متعلقة بالتلاعب بالناس- من الأمريكيين اليهود (بيتر دراكر، فيليب كوتلر، الخ). بيرنيز تأكيد لهذه الملحوظة، فهو يهودي أمريكي. يمكن للبعض أن ينظر للأمر علي أنها نظرية المؤامرة إلا أن بيرنيز ليس اليهودي الوحيد من المتلاعبين بالعقول الذين سنقابلهم في هذا المقال.

القطيع المرتبك و هندسة الإجماع

كان بيرنيز أول من قدم فرويد للمجتمع الأمريكي. وقتها لم يكن أحد يعرف فرويد سوي المهتمين بعلم النفس، فقام بيرنيز بالإشراف علي ترجمة و نشر كتب فرويد و الترويج لها في المجتمع الأمريكي و عن طريقه صار فرويد معروفاً للعامة.

كان فرويد يري أن الجماهير لا يمكن أن تترك حرة لأن لديهم نزعات عنف و تصرفاتهم غير منطقية تحكمها الغرائز و الرغبات الدفينة بأكثر مما يحكمها المنطق، بعبارة أخري لا يمكن الثقة بحكم الجماهير و رأيها. إنتشار كتب فرويد أدي لظهور إتجاه لرفض فكرة الديمقراطية لدي بعض المفكرين السياسيين.

بعد إنتشار أفكار فرويد، كتب والتر ليبمان أحد المفكرين السياسيين المؤثرين في الفكر الأمريكي أننا لا يمكننا أن نثق في الجماهير. رفض ليبمان فكرة الديمقراطية، لأننا إن كنا لا نستطيع أن نثق برأي الجمهور فإن الديمقراطية (التي تعطي الجمهور دوراً في إتخاذ القرارات) تصير شيئاً خطراً. في مقالاته وصف ليبمان الجمهور بعبارة القطيع المرتبك bewildered herd و هو المصطلح الذي صار مصطلحاً أساسياً في علم الإعلام فيما بعد. والتر ليبمان يهودي. هذا يهودي آخر نقابله في هذا المقال من الداعيين للتلاعب بالناس.

راقت أفكار ليبمان لبيرنيز، و كتب بيرنيز مقالة بعنوان (هندسة الإجماع Engineering of consent) قال فيها إن أفكاره المتعلقة بإستغلال الرغبات الدفينة للجماهير - الذين وصفهم في المقال بأنهم غير عقلانيين، لا يمكن الثقة فيهم و يفتقرون لأي معايير عقلية أو أخلاقية- لدفعهم للإستهلاك تشكل وسيلة لقيادة الناس إقتصادياً و سياسياً. فيما بعد صار مصطلح هندسة الإجماع مصطلحاً أساسياً آخر في علم الإعلام و السياسة.

كانت هذه الأفكار تمثل شكل من أشكال التراجع في الفكر السياسي. الديمقراطية في الأصل شكل من أشكال تنظيم سيطرة الحكام علي الجمهور، و لكن هذا الإتجاه الجديد كان عودة لسيطرة رجال السياسة علي العامة، فقط هي سيطرة شكلها مختلف.

النازية و علم النفس

لم يكن ليبمان هو الوحيد الذي رفض الديمقراطية بناء علي نظريات فرويد، النازيين أيضاً إقتنعوا بهذا الرأي، و قد روجوا لفكرة أن الديمقراطية تطلق النزعات الفردية الأنانية لدي الناس. في الإنتخابات التي خاضها الحزب النازي للوصول للسلطة كان النازييون يعدون الناس أنهم إن وصلوا للسلطة سيتخلون عن الديمقراطية و يلغون الأحزاب! أحد الملصقات النازية التي أستخدمت في الحملة الإنتخابية كتب عليه أن ألمانيا بها 38 حزب و 6 مليون عاطل في إشارة لأن الديمقراطية لم تقم بحل مشكلات المجتمع الألماني. المثير أنهم فازوا في الإنتخابات بالفعل و راقت أفكارهم للناس.

علي الرغم من هذا فقد أدرك النازييون أنهم بحاجة للتحكم في الجماهير من خلال الدعاية لذا أنشئوا وزارة للدعاية كان رئيسها جوزيف جوبلز، أحد أشهر النصابين في التاريخ. في أحد التصريحات الصحفية له قال جوبلز إن إدوارد بيرنيز و أفكاره تمثل مصدر إلهام له.

نظريات فرويد كانت تقدم تفسيراً لما حدث في ألمانيا في العهد النازي، الحماس الشديد للأفكار النازية، تقديس هتلر و العنف الرهيب الذي تم صبه علي كل من هو ليس نازياً (المسيحين المتدينين، الشيوعيين، اليهود، الخ). يقول فرويد أن الإنتماء لمجموعة ما يجعل المرء يوجه كل نزعاته الأنانية إلي قائدها. هو لا يحب أن يكون شهيراً و لكن لابد أن يكون قائد المجموعة شهيراً، لا يحب أن يكون آمناً إلا أن قائد المجموعة لابد أن ينعم بالأمن، الخ. بمعني آخر فإن المرء يري نفسه في قائد المجموعة. النزعات العنيفة و التدميرية يتم توجيهها إلي كل من هو خارج المجموعة أيا ما كان. لا يهم إن كنت شيوعياً أو يهودياً أو مسيحياً، المهم أنك لست نازياً و هذا كاف ليسحقك النازيون سحقاً.

أعتقد أن نفس النظرية تنطبق علي التشجيع الرياضي و العنف الذي يصحبه. التشجيع شيء غير منطقي لا هدف له سوي أن يشعر المرء أنه ينتمي إلي مجموعة ما. إن فاز فريقك المفضل لا يرفع من رصيدك في المصرف، لن يرفع من شعورك بالأمن…. لن يكون له أدني إنعكاس مادي عليك، فقط هو الشعور أنك تنتمي إلي مجموعة و هذه المجموعة منتصرة. العنف الذي يلاقي به المشجعون مشجعي الفرق الأخري هو توجيه العنف إلي كل من هو خارج المجموعة التي ينتمي لها المرء.

الإتجاه المضاد

حين قدم بيرنيز فرويد لرجل الشارع الأمريكي كان هذا بداية تحول ضخم في المجتمع. إنتشر التحليل النفسي في كل مكان، صار موضة في المجتمع و صار المحللين النفسيين من الأثرياء. أحدي الشخصيات البارزة في هذا المشهد كانت أنّا فرويد إبنة سيجموند فرويد. بناء علي نظريات أبيها، قالت أنّا إن الإنسان عليه أن يتعلم أن يكبح غرائزه و نزواته و دوافعه الخفية ليضع نفسه في صورة مقبولة إجتماعياً. هنا نصتدم لثاني مرة مع فقدان المرجعية، حيث صار إتجاهاً في المجتمع الأمريكي أن يصير المجتمع مرجعية لما هو مقبول و ما هو غير مقبول. المجتمع مليء بالأفكار و العادات الخاطئة بمقياس الدين و العقل و بالتالي لا يمكن إتخاذه مصدراً للصورة التي علي الإنسان أن يضع نفسه فيها.

هذا المعني عبر عنه مارتن لوثر كينج في إحدي خطبه حيث قال: “علم النفس الحديث يستخدم كلمة معينة أكثر من سواها هي كلمة غير متكيف maladjusted ، بالطبع كلنا يرغب في أن تكون حياته سليمة، لا أحد يرغب في أن يعاني من الشيزوفرينيا و الذهان، و لكن هناك أشياء في مجتمعنا و عالمنا أفخر بأن لا أتكيف معها. أنا لا أنوي أن أتكيف مع الفصل و التمييز العنصري، لا أنوي أن أتكيف مع التعصب الديني، لا أنوي أن أتكيف مع نظم إقتصادية تأخذ الأساسيات من الأغلبية لتمنح كماليات للأقلية”.

إتجاه أنا فرويد المبني علي التحليل النفسي و الداعي لتقييد الناس بما يفرضه المجتمع ليعيشوا حياة سوية لاقي أكثر من ضربة، مثل مارلين مونرو التي كانت تخضع لعلاج لدي محللين نفسيين ثم إنتحرت (أو قتلت، الموضوع غير مؤكد). زوج مارلين مونرو السابق، أرثر ميلر، الأديب الأمريكي الشهير خضع للتحليل النفسي ثم خرج ليقول إن التحليل النفسي وسيلة للسيطرة علي الإنسان، تقييده بدلاً من تحريره، هو محاولة لصنع الإنسان السوبر (الذي تحدث عنه نيتشه و كان أحد الأفكار المؤسسة للفكر النازي).

الضربة القاصمة لأفكار أنا فرويد جاءت من فتي و فتاة، إبني إحدي صديقاتها و الذين كانا يخضعان لعلاج نفسي علي يديها. في البداية كان العلاج مبشراً و تم إستخدامهما كدليل علي صحة نظريات أنا فرويد التي إستطاعت أن تعلم الطفلين كيف يتكيفا مع المجتمع و يكبتا رغباتهما و مشاعرهما و أفكارهما حتي يكبرا ليتزوجا و يعيشا حياة إجتماعية سوية. بمرور الوقت صار الفتي مدمن كحول ثم مات من إدمان الكحول، و الفتاة إنتحرت في أثناء زيارة كانت تقوم بها لأنا في إنجلترا، إنتحرت في البيت الذي عاش فيه فرويد آخر أيامه.

في نهاية الستينات خرج هربرت ماركوزه، أحد علماء النفس الذين درسوا التحليل النفسي و عملوا مع الحكومة الأمريكية في مشروعات الدعاية المضادة للنازية، خرج ماركوزه برأي أن التحليل النفسي سمح للشركات بصنع الإنسان ذو البعد الواحد، الذي يتم التحكم به من خلال رغبات و دوافع محددة مشتركة بين البشر جميعاً، و أن محاولة قولبة الإنسان في نموذج يقبله المجتمع ليس أفضل نظام للحياة. أفكار ماركوزه أثرت في شباب الجامعات خاصة مع إندلاع حرب فيتنام. خرجت الكثير من المظاهرات الرافضة لهيمنة الشركات علي العقول و رافضة لدخول أمريكا إلي فيتنام، و رابطة بين الحرب و بين الشركات المنتفعة من تصنيع السلاح و بيعه للجيش الأمريكي. سميت هذه الحركة حركة القدرات الإنسانية Human Potential movement

لم تكن المظاهرات عادية، فقد شابتها تفجيرات لعدد من منشآت الشركات الأمريكية، كما أنها كانت مظاهرات داعية لإسقاط النظام السياسي الأمريكي الذي سمح بمثل هذا التحالف بين الحكومة و الشركات للسيطرة علي عقول الناس. تدخل الحرس الجمهوري الأمريكي و الشرطة لقمع المتظاهرين في حوادث شبيهة بإصتدام الأمن المركزي بالجماهير في مصر، حوادث لا يصدق من يشاهدها أنها وقعت في دولة غربية. تحت القمع تحولت حركة القدرات الإنسانية إلي حركة سلمية، تهدف لتغيير المجتمع تدريجياً عن طريق نشر أفكارها.

الأفكار الجديدة التي سادت في المجتمع الأمريكي بعدها هي أفكار التفرد. المقياس الوحيد لقيمة أي شيء هي الفرد، أن يحاول كل شخص أن يتفرد عن الآخرين. إن كنت أري أن هذا الشيء جميل فهو جميل، لا يوجد شيء إسمه الذوق العام، لا يوجد شيء إسمه القواعد الأخلاقية أو الدينية أو الإجتماعية، لا يوجد أهمية لما هو مقبول إجتماعياً و ما هو غير مقبول، المهم ما أقبله أنا كفرد أو أرفضه، هذا هو ما يحدد سلوكي. هكذا تسبب إصلاح خطأ في إرتكاب خطأ آخر، و رداً علي السيطرة علي عقول الناس إنتشر التحرر من كل شيء و أي شيء. هذه ثالث مرة نصتدم فيها بفقدان المقياس أو المعيار الذي تقاس به الأشياء.

و تستمر قيادة الجماهير

الآن و قد صار التفرد هو إسم اللعبة تواجه الشركات مشكلة جديدة. الأساليب التسويقية القديمة لم تعد تجدي في شيء. تقسيم الناس بناء علي مستواهم المادي أو الإجتماعي لا يجدي في تسويق السلع. لم تعد السياسيات القائمة علي اللعب علي الغرائز و الدوافع الخفية ناجحة في التسويق و صار كل إنسان يبحث عن ما يجعله متفرداً فقط بغض النظر عن أي شيء آخر. حتي مجموعات التركيز لم يعد أحد يقبل أن يشارك فيها بعد أن ساءت سمعتها و إنتشرت فكرة أنها تقوم علي التحليل النفسي لقيادة الناس و دفعهم دفعاً للشراء.

هنا لجأت الشركات لمعهد ستانفورد للأبحاث Stanford Research Institute ليفكروا في حل للمشكلة. قام المعهد بدراسات للكيفية التي يحاول بها الناس أن يشعروا بتفردهم. توصل المركز إلي إلي قوالب محددة للسلوك يشعر من خلالها الإنسان بتفرده. علي سبيل المثال هناك من يشعر بتفرده من خلال التجارب الجديدة، هو يجرب كل شيء و أي شيء، يجرب تسلق الجبال، التزحلق علي الماء، الخ. إن إستهدفت هذا النموذج من الناس بحملات تسويقية قائمة علي فكرة (تجربة) منتج ما فغالباً ستجذب إنتباهه. قام المركز بتصنيف هذه القوالب المحددة التي من خلالها يشعر الإنسان بتفرده و إخترعوا مصطلح أسلوب الحياة life styleلوصف هذه القوالب المحددة.

هنا صار الأمر قيد التحكم مرة أخري، و صار بوسع الشركات إستهداف الناس و دفعهم للإستهلاك مرة أخري من خلال حملات تسويقية تستهدف نماذج السلوك التي يتبعها الناس ليشعروا بتفردهم و إختلافهم عن الآخرين، و ساعد علي هذا دخول الكمبيوتر في الصناعة الذي سمح بإنتاج سلع بأشكال و ألوان متعددة.

علي جانب السياسة كان لابد من تغيير شكل الخطاب الإعلامي. صار الناس يكرهون الحكومة بكل ما تمثله من تحكم و سيطرة، لذا إن خرج السياسيون بحملة تلعب علي هذه النقطة فإنهم سيجتذبون إهتمام الجماهير.

في أوائل الثمانينات ترشح رونالد ريجان لإنتخابات الرئاسة الأمريكية. كتب له أحد المسئولين الإعلاميين خطاباً يتضمن فكرة رفع تدخل القضاة و البيروقراطيين و الحكومة في حياة الأمريكيين، و ترك له إختيار عنوان الخطبة. إختار ريجان عنوان (دع الشعب يحكم). الخطاب كان غير معتاد للسياسيين و الإعلاميين الأمريكيين. كارتر وصفه بالسخف، و كذلك لم تقبله الصحف إلا أن ريجان فاز في الإنتخابات! لقد أحسن إختيار الوتر الذي يلعب عليه و هو نفس الوتر الذي لعبت عليه مارجريت تاتشر في إنجلترا.

حتي بعد إنتخابه رئيساً و كان عليه أن يواجه الكساد الإقتصادي الذي أصاب أمريكا في ذلك الوقت فإن كارتر رفض أن تتدخل فيه الحكومة بأي شكل، قائلاً في إحدي خطبه أن الحكومة ليست الحل بل الحكومة هي المشكلة، و أن الحل بيد الشركات الأمريكية. بالطبع كان في هذا رسالة خفية للشعب الذي إزداد تمسكاً بالشركات و قل رفضه لسلعها و لسياساتها التسويقية و أقبل مرة أخري علي الإستهلاك.

خاتمة

إصتدمنا أكثر من مرة هنا بغياب المرجعية السليمة، و كل مرة كانت النتيجة أن تضل مجتمعات بأكملها و يستغلها قلة لتحقيق مكاسب فردية. اليوم هناك الكثير من الرافضين لأن يكون الدين مرجعية لما هو صواب و ما هو خطأ بحجة أن الدين يسمح لأشخاص بالحصول علي سيطرة و سلطة علي الجماهير لتحقيق أهداف شخصية بحجة أنهم ينفذون شرع الله ( و هو نموذج دعي الدين لمحاربته و ليس النموذج السليم للمرجعية الدينية). هنا نري أن السيطرة علي الجماهير أيضاً موجودة في النظم الأخري التي ليست لها مرجعية دينية.

الجماهير لا عقل لها، قد تكون العبارة صادمة أو فيها شيء من الإستعلاء إلا أن بها قدر لا بأس به من الصحة. يقول الله تعالي عن اليهود في القرآن الكريم “ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس”. لم يسيطر اليهود علي الناس إلا بتقصير و غفلة من هؤلاء الناس قبل أن يكون بعبقرية من اليهود.

المصادر:

معظم ما جاء في هذا المقال مصدره سلسلة The century of the self و هي سلسلة أفلام وثائقية نشرتها شبكة BBC.