السايكوباث في الجوار

كتاب عن الضمير

مرت فترة طويلة منذ أن قرأت كتاباً جيداً ككتاب مارتا ستاوت (السايكوباث في الجوار The sociopath next door). إسم الكتاب مشتق من حقيقة أن تقريباً 4% من البشر في العالم الغربي مصنفين علي أنهم شخصيات سايكوباثية، هذه نسبة ضخمة نسبة 1 من 24، بالتالي أي شخص إحتك بشخصية سايكوباثية في الأسرة أو العمل أو الشارع يوماً ما. المؤلفة أستاذة طب نفسي في جامعة هارفارد و قد ضربت في الكتاب أمثلة بحالات رأتها كطبيبة نفسية بعد تغيير الأسماء و التفاصيل حفاظاً علي خصوصية المرضي. الكتاب غير ممل إطلاقاً بعكس الكثير من الكتب من هذه النوعية التي تحرص علي ملء الصفحات عادة بكلام مكرر ممل، الكاتبة أسلوبها سلس و أفكارها مترابطة و صياغتها للمواقف و القصص التي تعرفها من عملها كطبيبة مشوق و جذاب.

عادة ما يظن الناس أن الشخصية السايكوباثية هي شخصية تشبه القتلة المتسلسلين في الأفلام: عنيف، محب للدم، مجنون، الخ. و علي الرغم من أن كثير من القتلة المتسلسلين المشهورين يصنفوا علي أنهم شخصيات سايكوباثية إلا أن الشخص السايكوباثي ليس عنيفاً بالضرورة. تعريف الشخص السايكوباثي هو الشخص عديم الضمير، الذي لا يشعر بأي تأنيب ضمير لأي فعل يفعله أيا ما كان. بالتالي من الممكن أن يكون الشخص السايكوباثي عنيفاً، لكن هناك حالة مثلاً لشخص سايكوباثي كان يسرق الطوابع في مكتب البريد. هو لا يهدف لبيع هذه الطوابع بأي شكل، فقط يقف علي جانب الطريق و يراقب هلع الموظفين حين يكتشفوا إختفاء الطوابع و تحقيقات الشرطة و المشهد المتوقع في هذه المواقف. و قد دخل السجن فقط بسبب هذه التسلية و حين خرج من السجن كررها ثانية! من الممكن أن يكون السايكوباثي شخصية عنيفة، شخصية ناجحة في العمل علي حساب أيذاء و إزاحة زملاؤه، قد يكون مجرد شخص أحمق سفيه، قد يكون ديكتاتور سفاح، قد يكون رجل أعمال ناجح فاحش الثراء، قد يكون مجرد متنطع يبحث عن زوجة أو أهل ينفقوا عليه بينما هو لا يفعل أي شيء ذو قيمة. الإحتمالات واسعة و متعددة لكن الرابط الأساسي بينها هو أن ضميره لا يؤلمه إطلاقاً مهما فعل أي شيء أيا ما كان.

هذا مدخل شديد الأهمية و شديد الثراء و هو ما يعطي هذا الكتاب جزء كبير من قيمته، يمكنك أن تمسح كلمة سايكوباث من الموضوع كله و تفكر في الكتاب علي أنه كتاب يناقش الضمير، بداية من تاريخ فكرة الضمير في كتابات رجال دين العصور الوسطي مرورا بالأنا العليا Supper ego التي جاء بها فرويد مروراً بالعلامات الباثولوجية لإنعدام الضمير بمعني كيف يبدو مخ هؤءلاء الذين إنعدم ضميرهم في الأشعات التشخيصية و العلامات السريرية (الأعراض التي تظهر علي المريض) ثم محاولة قياس العوامل الوراثية في مقابل عوامل البيئة في تكوين الضمير أو إنعدامه ثم النظر للضمير من منظور نظرية التطور، الخ. هذه قماشة خصبة تسمح بالكثير و قد أحسنت الكاتبة إستغلالها لأقصي درجة ممكنة.

تحرير المصطلح

في البداية و كما هو متوقع في علم النفس و في العلوم الإنسانية عموماً تعريف الشخص السايكوباثي عليه خلاف. الخلاف يبدأ من اللفظ سايكوباثي مقابل سوسيوباثي (pshyopath vs sociopath)، و التي يمزج البعض بينهما علي أنهما مرادف لشيء واحد بينما يري آخرون أن هناك فروق طفيفة بين الإثنين و هو ما جعلني أحتار في إختيار اللفظ العربي لأن كلمة سايكوباث هي المعروفة في الكتابات العربية بينما ربما يري البعض أن الكلمتين ليسوا مرادفين لبعض، و هو ما يدفع الأطباء لعدم إستخدام الكلمتين و أستخدام مصطلح فخيم هو (إضطرابات الشخصية المعادية للمجتمع Antisocial personality disorder). للأسف إستخدام الألفاظ المتحذلقة لا يحل الخلاف لأن المشكلة تصل لهل يصنف الشخص السايكوباثي علي أنه مريض أم لا. تتميز الشخصية السايكوباثية بميزة خارقة: المريض لا يشكو من أي شيء، لا يعاني ولا يشعر بأي مشكلة من أي نوع. هذه نقطة تفرقة أساسية بين السايكوباثية و باقي الأمراض النفسية الأخري. علي سبيل المثال الشخص النرجسي لا يفهم أو لا يهتم بمشاعر الآخرين، كل تفكيره يدور حول نفسه و يعجز عن رؤية معاناة أي شخص بجواره أو لا يبالي بها. لكن الشخص النرجسي يأتي لعيادة الطبيب النفسي باكياً حين ينفض الناس من حوله. قد تكون شكواه غريبة من نوعية أن الناس كلها تكرهه لأنهم سيئين أو لا يفهمونه أو شيء من هذا القبيل - تذكر مثلاً كلمة نيرون إمبراطور روما في لحظة إنتحاره “يا للفنان الذي يموت بداخلي”، هذا شخص يري أنه فنان عظيم لا يقدره الناس حق قدره ولا يفهمون نبله و رقيه - لكن في النهاية الشخص النرجسي يعاني. الشخص السايكوباثي يمكن أن يصل لنفس النقطة حيث ينفض عنه الناس و يعيش وحيداً لكنه لا يشعر بأي مشكلة من أي نوع. ضميره لا يؤلمه بسبب أنه لا يشعر بأي تواصل إنساني من أي نوع مع الناس بالتالي إن إنفض الناس عنه فإنه لا يشكو إلا إن تأثر مادياً بغياب الناس عنه (غياب من ينفق عليه مثلاً)، لكن نفسياً الشخص السايكوباثي هو المريض النفسي الوحيد في الكتب كلها الذي لا يشكو من أي شيء. عادة ما يتم تشخيص الشخص السايكوباثي عندما يذهب المحيطون به للطبيب النفسي طلباً للعلاج من مما سببه هو لهم أو في إطار فحص نفسي أثناء تحقيق قضائي في جريمة ارتكبها، لكن هو نفسه لا يشعر بأي مشكلة من أي نوع. من هنا أصلاً هناك خلاف علي أعتبار السايكوباثية مرض نفسي أم لا لإن المريض لا يشكو من شيء و قدرته علي الإنتاج لا تتأثر مثلاً بكونه سايكوباثي بالتالي هل نصنفه علي أنه مريض من البداية؟،

من هنا أيضاً تظهر قضية لطيفة: ما هو الضمير؟ في تعريف الكاتبة الضمير هو شعور بالتواصل مع البشر الآخرين يمنع إيذاؤهم أو يسبب لك الألم إن آذيتهم. بالتالي مثلاً هذا أحد عيوب نموذج فرويد للتحليل النفسي: عند فرويد لا يوجد هذا المعني بدقة، بل توجد الأنا العليا و هي عبارة عن شيء تم غرسه فيك بالتربية و التنشئة و المجتمع و عادة ما يسبب عليك ضغوطاً سلبية لأسباب خاطئة (مثل أنك لا ترقي لمستوي سلوكي معين، مثل وصم سلوك طبيعي تماماً بأنه سيء، الخ) حتي أنه يدفع أحياناً للإنتحار. في تعريف الكاتبة لا يوجد شيء إسمه (الكثير من الضمير شيء مضر) بعكس الأنا العليا عند فرويد. الكثير من الضمير في تعريفها للضمير يعني الكثير من التواصل مع الناس و الإحساس بهم و الشعور بالإنتماء لشيء مشترك بينك و بينهم يجعلك تسعد لسعادتهم و تتأثر إن تسببت في إيذاؤهم. هذا شيء لا يسبب أي أثر سلبي عموماً.

في رأيي الكاتبة تهمل جانب السلوك البشري القائم علي الإمتناع عن إيذاء الناس بسبب التنشئة و التربية و الأيديولوجية و الدين، الخ. هي فندت النموذج الفرويدي و بينت في نفس الوقت أنه كان مهم كمرحلة من مراحل تطور التفكير الإنساني و علم النفس، لكنها إكتفت فقط بالكلام عن الضمير القائم علي الشعور بالتواصل مع الناس و أهملت كل ما عداه. الأمر لا يجب أن يكون إما النموذج الفرويدي ثلاثي الفروع (الأنا و الأنا العليا و الهو Ego, superego, Id) و إما أن نهمل الأمر برمته و هناك أرضية وسط ما لكنها لم تتعرض لهذه الأرضية الوسط.

الطبع و التطبع

عندما نأتي لجزئية التنشئة في مقابل العامل البيولوجي الذي يتحدد عند مولد الإنسان Nature vs Nurture في تحديد ما إن كان الشخص عنده ضمير أم لا فإن الكاتبة بدأت أصلاً بشرح كيف يقيس العلماء هذا الأمر في المطلق. الموضوع لا يتوقف علي صفة السايكوباثية فقط بل إن هناك عشرات من الأمراض النفسية التي يحاول العلماء قياس نسبة عامل التربية فيها في مقابل الطبيعة البيولوجية التي تحددها جينات المرء، بالتالي قامت الكاتبة بشرح كيف يقوم العلماء بهذا عموماً ثم خصصت الكلام عن النتائج فيما يتعلق بالسايكوباثية.

هناك أسلوبين رئيسيين: الأول هو مقارنة صفات التوائم المتماثلة في مقابل التوائم الغير متماثلة. الفكرة هنا أن التوائم المتماثلة تتشابه في الجينات و ظروف التنشئة بينما التوائم الغير متماثلة تتشارك فقط في ظروف التنشئة.

الأسلوب الثاني هو مشروع تكساس للتبني. هذا مشروع قائم منذ ثلاثين عاماً يتابع خمسمائة طفل (الآن صاروا بالغين) تم تبنيهم مع معرفة آباؤهم و أمهاتهم البيولوجيين و يقارن صفاتهم النفسية بأباؤهم البيولوجيين و أباؤهم بالتبني.

النتيجة التي خرجت بها مختلف الدراسات و مختلف طرق القياس هي أن السايكوباثية شيء يتحدد بالجينات، و هو شيء لا يوجد أي وسيلة تربوية نعرفها لتصحيحه. الأمر مرعب عندما تحاول أن تحلله بشكل عصبي: ما الذي يحدث في عقل الشخص السايكوباثي؟ كيف يعمل مخه عندما ننظر إليه بالأشعة؟

تظهر صور الأشعات أنه عندما تعطي للشخص السايكوباثي إختبارات بها كلمات مثيرة لمشاعر التواصل الإنساني مثل كلمة (حب) فإن الجزء الذي يعمل في عقله هو الجزء الذي ينشط عندما تحل مسألة رياضية (الفص الصدغي)! في الشخص الطبيعي تكون القشرة الدماغية هي ما يستثار بهذه الإختبارات حيث أن هذا هو جزء المخ المسئول عن التواصل الإنساني و المشاعر لكن الشخص السايكوباثي يعجز عن التعامل مع هذه الأشياء إلا في إطار عملية تفكير بحت مثل التفكير في حل لغز أو مسألة رياضية.

من هنا تأتي واحدة من أكثر النقاط إثارة للإهتمام. الأمر لا يتعلق فقط بالضمير و غيابه. السايكوباثي شخص عاجز عن الشعور المعقد عموماً، حياته باردة تماماً من المشاعر بخلاف المشاعر البدائية (الشبع، الجوع، الإستمتاع بالجنس، الدفء، الخ). حياته كلها تشبه لعبة شطرنج. من هنا يأتي وصف الشخص السايكوباثي بأنه لا يتوافق مع معايير المجتمع: متعدد العلاقات العاطفية، لا يلتزم بالمواعيد ولا سداد ديونه ولا الأعراف الإجتماعية ولا يبالي بتبعات كل هذا. مخه عاجز عن الشعور عموماً الذي ينتج في هذه المواقف.

و من هنا تأتي صفة دائمة الإلتصاق بالشخص السايكوباثي: دائماً ما يرتكب أفعال متهورة و يحب التنافس و الفوز علي الآخرين في لعبة ما. اللعبة قد تكون إيذاء الآخرين في العمل، الإستمتاع بفرض سيطرته علي زوجته و أولاده، الأخ الذي ذكرناه سابقاً الذي كان يستمتع بهلع موظفي البريد حين يكتشفوا سرقة كل الطوابع في المكتب، الخ. بسبب حياته الفارغة يحتاج السايكوباثي لملئها بلعبة ما و بمخاطر من أي نوع (قمار، قيادة سيارة بتهور، الخ). هذه الألعاب كلها تستثير جزء المخ المسئول عن اللذات البدائية (الجنس، الأكل، الخ) و هو يحتاج لهذه الإستثارة بسبب جفاف حياته عموماً، كل اللذات التي تشعر بها أنت من لحظات تقضيها مع شخص عزيز عليك، من قراءة كتاب مؤثر، الخ هو لا يشعر بها، مخه لا يستطيع التعامل معها بالتالي يعوضها باللذات البدائية. عادة ما يكون أحد عوامل إنجذاب الناس للشخص السايكوباثي في بداية العلاقات العاطفية أنه يجعل الحياة متجددة و مليئة بالمغامرات. الآن يمكنك أن تفهم من أين تأتي هذه المغامرات. بالطبع كما لك أن تتوقع نسبة مدمني المخدرات و الكحول من السايكوباثيين ساحقة تتجاوز المتوسط البشري بمراحل. كلها أشياء تعوض الحياة الباردة التي يعيشونها.

نقطة جانبية: التنافس عموماً و الفوز في الألعاب الرياضية و الترقي في العمل و الإنتصار في المعارك الكلامية، كل هذا يوصف من الناحية العصبية بأنه مشاعر بدائية لإنها تعمل في الجزء البدائي من المخ (الجهاز الحوفي Limbic system)، و هو الجزء المسئول عن الغرائز عموماً. هذا إثبات (علمي) لتفاهة هذه الأشياء إن كان هناك شيء كهذا.

و من هنا يأتي أحد الصفات الملتصقة بالشخص السايكوباثي: أنه غبي مهما كان ذكياً. السايكوباثي عاجز عن فهم كيف سيتصرف البشر أمامه لأنه عاجز عن الشعور بهم بشكل حقيقي، بالتالي دائماً ما تنتهي قصة الشخص السايكوباثي بمفاجأة من نوع ما حين يتصرف الناس تجاه أفعاله تصرف يبدو لكل الناس منطقي و يبدو له مفاجيء. المثال شديد الشهرة عادة ما يكون الشخصيات الديكتاتورية في لحظة إنقلاب الناس (حتي المقربين منه في السلطة) عليه. الأمثلة علي كونها كانت لحظات مفاجأة للشخص نفسه رغم أنها متوقعة لكل من هب و دب كثيرة في التاريخ.

دور المجتمع

لكن علي الرغم من أننا قلنا أنه لا يوجد وسيلة تربوية لإصلاح الشخص السايكوباثي إلا أن هناك وسيلة أخري غير تربوية: المجتمع. في بداية المقال أنا ذكرت أن نسبة الأشخاص السايكوباثيين هي 4 في المائة في العالم الغربي. نسبة الأشخاص السايكوباثيين في تايوان تتراوح في الدراسات المختلفة بين 3 في العشر آلاف و 1 في الألف. الإختلافات الجينية لا تفسر هذا الفارق الضخم. الأكثر إثارة للعجب أن أحدي الدراسات في عام 1991 وجدت أن نسبة الأشخاص السايكوباثيين في أمريكا تضاعفت في الخمس عشر سنة السابقة للدراسة.

التفسير هنا هو أن المجتمع يحد من الطبع السايكوباثي أو يزيده. المجتمع الأمريكي عموماً مجتمع تنافسي قاسي يشجع علي الكثير من السلوكيات التي تأتي مع السايكوباثية بينما المجتمعات الشرقية عندها قدر ضخم من إحترام الآخرين مراعاتهم. بالتالي الشخص السايكواباثي في إطار أنه يعيش في مجتمع و بشكل ما هو مجبر علي مجاراة طباع هذا المجتمع بدرجة أو أخري فإن طباعه السايكوباثية إما أن يتم تغذيتها بشدة و إما أن يتم كبتها. لكن من يستطيع أن يفعل ذلك هو المجتمع كلل، التربية المباشرة التي يمارسها الأب و الأم و المدرسين لا تستطيع علي قدر علمنا حتي اليوم تقويم الطباع السايكوباثية لكن المجتمع ككل يستطيع هذا.

نظرية التطور (طبعاً)

كالعادة لا يمكن أن تفتح فمك في كتاب له علاقة بالإنسان هذه الأيام دون أن تذكر نظرية التطور. بالنسبة لي عادة ما يكون هذا مقياس علي كون الشخص عالم حقيقي ينحني للعلم أم متعصب. نظرية التطور تبدو و كأنها تسير بشكل منطقي أو بعبارة أخري بها ثغرات قليلة ما دمت تتكلم عن الصفات التشريحية: الأصابع، الأقدام، الزعانف، الخ. ما أن تتكلم عن رأس الإنسان حتي تظهر الثغرات بالطن. كل شيء تقريباً في رأس الإنسان يتعارض مع نظرية التطور: حجمها عند الولادة، كلمة الجلوكوز التي يستهلكها مخ ا لإنسان، تقريباً كل الصفات الإنسانية، الخ.

علي سبيل المثال يوفال هاراري الإسرائيلي صاحب كتاب Sapiens ساحق الشهرة مقتنع بالتطور لكن ما أن يعرض للعقل البشري حتي يقر بعجز النظرية عن تفسير الكثير من الأشياء بل و أحياناً يهاجم النظريات التي تحاول أن (ترقع) هذه الثغرات بألفاظ تقترب من السباب.

بالتالي ما أن يأتي الجزء الخاص بالتطور في مثل هذه الكتب حتي أتحفز و أكاد أن آآتي بالفيشار لأنها ستكون مبارة ممتعة في مشاهدة محاولات الترقيع التي يضعها الناس للنظرية.

الكاتبة كانت من النوع الصادق، قالت بوضوح أن الضمير يعارض نظرية التطور و فكرة البقاء للأصلح لأنك تبذل من وقتك و مجهودك و مالك في صالح الآخرين و ليس في صالح نفسك بما يضر بنفسك في أحيان كثيرة. عرضت الكاتبة بعض محاولات الترقيع مثل فكرة إلغاء فكرة البقاء للكائن الأصلح بل البقاء للمجموعة الأصلح، حيث أن مجموعة من الكائنات تراعي بعضها لديها فرصة أكبر في البقاء كمجموعة بينما الكائنات الأنانية ربما ينجو منها واحد أو إثنان لكن المجموعة سيهلك معظمها. المشكلة هنا هو ما الذي يجعل مجموعة من الكائنات المتناثرة يتم إختيار الأفراد ذوي الضمير منها ليكونوا مجموعة مترابطة أصلاً؟ عموماً فكرة البقاء للمجموعة الأصلح فكرة تلاقي الكثير من الهجوم من محبي نظرية التطور عموماً لكنها أحد محاولات الترقيع التي تحاول أن تشرح فكرة الضمير. أحد محاولات الترقيع الأخري هي محاولة عدد من العلماء من ضمنهم ريتشارد داوكينز الشهير بعرض فكرة عبر عنها داوكينز في كتابه (الجين الأناني The selfish gene). الفكرة هي أن البقاء ليس للكائن الأصلح بل للجين الأصلح. أنا إن كنت أشعر بالتعاطف مع إبني و أبذل من وقتي و مجهودي لرعايته فإن إبني، الذي يحمل جيناتي له فرصة أكبر في الحياة بالتالي هناك فرصة أكبر لجيناتي أن تستمر. الكائنات التي بقت هي الكائنات التي تستطيع حماية جيناتها بعض النظر عن بقاء الكائن نفسه أو فناؤه. لكن المشكلة أن هذه الفكرة تتعارض مع فكرة الضمير تجاه المجموعة. المشكلة أن هذا يتعارض مع فكرة البقاء للأصلح بمعني أن كوني أراعي أبني فإن هذا لا يعني أني و أبني سنعيش إن كنا مثلاً ضعاف البنية. بل بالعكس ربما كانت فرصتي في البقاء أكبر إن أهملت الآخرين و ربما فنينا كلنا إن لم ينج شخص ما بنفسه. دعك من أن الضمير هو شعور تجاه الناس كلها و ليس فقط تجاه أبني الذي يحمل جيناتي.

الكاتبة كان عندها التواضع الكافي لأن تعرض هذه الآراء المتعارضة و توضيح التعارض بينها و التعليق بأن نظرية التطور هي نفسها ما زالت قيد التطور. هذا كافي بالنسبة لي ولا أطلب ما هو أكثر من هذا. لا أعتقد أن كثير من المتعصبين للتطور سيكون عندهم الحياد العلمي لعرض آراء كثيرة متعارضة و الإعتراف في النهاية بأننا لا نجد تفسيراً مقنعاً مثلما فعلت الكاتبة و مثلما فعل يوفال هاراري.

في النهاية

هذا كتاب يستحق أن يترجم للعربية. حاولت هنا عرض الأفكار و النقاط التي راقت لي بشكل أساسي لكن هذا لا يغني عن قراءة الكتاب نفسه. إن أستطعت أن تقرؤه بالإنجليزية إفعل، و إن كنت مترجم فحاول أن تأخذ فكرة ترجمة هذا الكتاب في اعتبارك لأنه سيكون إضافة لطيفة للمكتبة العربية.