الديمقراطية و الشريعة و العلماء الثقات

[caption id="" align=“aligncenter” width=“576”]

متظاهرين ينادون بتطبيق الشريعة في 2 نوفمبر 2011 في ميدان التحرير - المصدر CNN
متظاهرين ينادون بتطبيق الشريعة في 2 نوفمبر 2011 في ميدان التحرير - المصدر CNN
متظاهرين ينادون بتطبيق الشريعة في 2 نوفمبر 2011 في ميدان التحرير - المصدر CNN[/caption]

في الثلاثينات أصدرت الحكومة الأمريكية قانوناً بتحريم تجارة و تناول الخمور. المشكلة أن أغلبية الشعب تريد شرب الخمر، بالتالي تحولت تجارة الخمور إلي تجارة أكثر ربحاً من تجارة المخدرات و السلاح، فالمخدرات محرمة قانوناً و لكن عدد قليل من الناس هم من يرغب في تعاطيها و لكن معظم الناس تريد شرب الخمر. هذا رفع أرباح تجارة الخمور إلي السماء.

علي الرغم من أن الحكومة الأمريكية أنفقت ملايين الدولارات في الدعاية ضد الخمر و علي الرغم من أحكام السجن العديدة و إعدام خمس أشخاص في تهم تتعلق بالإتجار بالخمر إلا أن الأمر لم يتوقف. هذه هي الفترة التي تألق فيها آل كابوني، أحد أشهر المجرمين في التاريخ. ربما يظن البعض أن كابوني كان تاجر مخدرات أو سلاح إلا أنه كان فقط تاجر خمور. كانت هذه هي الفترة التي  لم يتوقف القتال فيها علي كونه قتال بين رجال الشرطة و تجار الخمور بل تحول الأمر لقتال بين العصابات من أجل إحتكار تهريب الخمور!

في الفترة الأخيرة كثر التناحر في مصر حول نقطة الديمقراطية و الشريعة و المنظور العام لدي الكثير من الإسلاميين أن الديمقراطية محرمة لأن من يضع الشريعة موضع تصويت فإنه كافر أو فاسق لأن المسلم ليست له الخيرة فيما يتعلق بأوامر الله سبحانه و تعالي. في الحقيقة فإن الديمقراطية لا تعارض تحكيم الشريعة، الديمقراطية تهدف لأن يختار الشعب ما يريد تطبيق من قوانين بناء علي ما تتفق عليه الأغلبية. بالتالي إن إتفقت الأغلبية علي تحكيم الشريعة فلا بأس و لكن ماذا إن إتفقت علي تحكيم أي حكم وضعي آخر؟

إن إتفقت أغلبية الناس علي تحكيم أي حكم غير حكم الله، فإنه أيا ما كان تصنيفهم من وجهة النظر الدينية، سواء صنفوا علي أنهم كفار أو فساق أو مذنبين بأي درجة، فإن الحقيقة تظل أنهم لا يريدون تحكيم الشريعة و الحقيقة الأهم هي أنه لا يمكن إجبار الناس علي تطبيق القانون إن كان أغلبهم غير مقتنعين به. البعض يري أن القانون مجموعة من القواعد التي توضع لتحكم سلوك المجتمع، في حين أن القانون مجرد حبر علي ورق ولا يتحول لشيء قابل للتطبيق إلا إن عبر عن قناعات الأغلبية. لو إتفق المجتمع كله علي تجريم القتل فإن القانون الذي يعاقب القاتل هو قانون معبر عن قناعات أغلبية الناس و يستخدم لحكم سلوك الأقلية التي تستبيح القتل، و لكن إن أصدرت قانوناً يحرم القتل في مجتمع يستبيح أغلب أعضاؤه القتل فإن القانون سيظل مجرد حبر علي ورق و لن يمكن تنفيذه.

كان هناك مشهد ظريف في فيلم The Untouchables و هو فيلم يصور الصراع بين الشرطة و آل كابوني في أثناء تحريم الخمور في أمريكاً. في هذا المشهد كانت العصابة تهرب الخمور من الحدود الأمريكية الكندية فداهمتها الشرطة و دار بينهم إطلاق نار. أصابت رصاصة أحد براميل الخمر فتدفق الخمر منها علي الأرض فما كان من أحد رجال الشرطة إلا أن وضع فمه علي الثقب و أخذ يشرب بنهم ذلك الخمر المتدفق! رجل الشرطة الذي يقاتل مهربي الخمور لا يؤمن بتحريم الخمر و يشربها هو نفسه. ربما لهذا قامت أمريكا بإلغاء هذا القانون بعد أن تعلموا الدرس بالطريقة القاسية. أول خطوات تحريم الخمور هو إقناع الناس فعلاً بأن يتوقفوا عن شرب الخمر بعدها فليصدر الكونجرس ما يشاء من القوانين التي تعبر عن قناعة المجتمع، و ليس الحل في إصدار قانون يرغم الناس علي ما لا يقتنعون به فعلياً لأن هذا القانون لن يتم تطبيقه علي أرض الواقع.

بالتالي إن قالت  الديمقراطية أن الناس لا تريد تحكيم الشريعة فإن الحل في المقام الأول يكون دعوياً، بإفهام الناس أهمية تطبيق الشريعة و إثارة مشاعر طاعة الله في نفوسهم، الخ، و لكن ليس الحل فرض الشريعة علي مجتمع لا تريد أغلبيته تطبيقها.

فيما يتعلق بمصر فإن أغلبية المصريين كشعب متدين تحب تطبيق الشريعة الإسلامية، و هو ما يثير خوف و غضب الكثير من غير الإسلاميين الذين يدركون أن أي تحكيم للديمقراطية لابد و أن يخرج بهذه النتيجة، و لكن بغض النظر عن رأي غير الإسلاميين فإن هناك نقطة هامة: الثوابت في الدين هي النصوص، القرآن و الأحاديث، و لكن فهم الناس لهذه الأحاديث و النصوص مختلف فأي فهم نطبق؟

العلماء الثقات

في أثناء دراستي في الكلية و أثناء نقاش في أحد الموضوعات الدينية، كتب أحدهم علي موقع الدفعة (أجمع علماؤنا الثقات علي كذا و كذا). رديت عليه بأن فلاناً، و هو من علماء المسلمين المشهورين، يري رأياً مخالفاً فرد علي قائلاً إنه ليس من الثقات. كانت هذه من أوائل النقاشات التي خضتها مع مثل هذه العقليات و وقتها لم أكن أنتبه لعبارة (العلماء الثقات) مثلما أنتبه لها اليوم.

الإمام أحمد رضي الله عنه قال (من حكي الإجماع فقد كذب فما يدريه لعل الناس إختلفوا). العبارة فيها إعتراف واضح بالرأي الآخر و إحترام له و من هنا كان يرفض عبارة الإجماع،و فيها إعتراف حتي بإحتمالية أن يقول شخص لا أعرفه رأياً مخالفاً، إلا أن عدداً من إٍسلاميي اليوم وجدوا حلاً لهذه المعضلة بإن إخترعوا عبارة (العلماء الثقات). بالتالي حين يقول أحدهم أن علماؤنا الثقات أفتوا بكذا و كذا فإنه لا يكون قد كذب، و في نفس الوقت فأنت لا تدري علي من تعود هذه ال (نا). هل علي المسلمين كلهم أم علي السنة أم علي السلفيين أم علي الإخوان أم عليه هو و أصدقاؤه؟ في الفلسفة هناك مصطلح هو الرمز الفارغ Empty Signifier الذي يستخدم لوصف كلمات مثل الحرية و العدالة، الكلمات التي ليس لها تعريف محدد و يختلف معناها من شخص لآخر. ربما كان مناسباً إستخدام هذه العبارات في الفلسفة حين يكون طرح الأسئلة أهم من إجابتها أحياناً، و لكن ليس في الخلافات الدينية التي تهدف للوصول لرأي محدد في قضايا بعينها.

جائزة نوبل كما قررها ألفريد نوبل تمنح في خمس مجالات فقط: الفيزياء، الكيمياء، الأدب، السلام و الطب. في الستينات ظهرت خلافات بين أعضاء البنك المركزي السويدي و الساسة في السويد حول بعض الأراء الإقتصادية، بالتالي إخترع البنك المركزي السويدي جائزة ألصقوا إسم نوبل بها هي جائزة نوبل في الإقتصاد و صار البنك يمنحها لمن تتوافق أراؤه الإقتصادية مع أفكار القائمين علي البنك دون موافقة من ورثة ألفريد نوبل علي إستخدام إسمه و جائزته المشهورة، ثم يسير أعضاء البنك وسط الناس مرددين أن فلاناً الحائز علي جائزة نوبل في الإقتصاد ينادي بنفس ما ينادون به !

اليوم يقوم الإسلاميين بنفس الشيء فيمنح أحدهم لعالم ما جائزة (العالم الثقة) ثم يسير وسط الناس قائلاً إن العلماء الثقات أجمعوا علي كذا و كذا، مع فارق أن جائزة نوبل في الإقتصاد يمنحها البنك المركزي السويدي فقط بينما جائزة (العالم الثقة) يمنحها كل من هب و دب لمن شاء من العلماء. البحث عن كلمة العلماء الثقات أو علماؤنا الثقات علي أي محرك بحث سيخرج بمليوني نتيجة تقريباً.

فيما يتعلق بتطبيق الشريعة فإن عدداً من المناديين بتطبيق الشريعة يطالب بإنشاء مجلس من العلماء الثقات. لابد من إحترام حقيقة أن من أثق به من العلماء لا يثق به كل الناس ولابد علي كل المناديين بتطبيق الشريعة أن يخرجوا بآلية نختار بها الناس هؤلاء العلماء الثقات الذين سبنبي القوانين بناء علي أراؤهم الفقهية و الدينية. في رأيي فإن الهيئات الديمقراطية (مثل مجلس الشعب) أو وسائل الديمقراطية (مثل الإنتخابات و الإستفتاءات) هي التي يمكن من خلالها إختيار العلماء الذين يثق الناس بهم.

الخلافات التي لا يعرف أصحابها أنها موجودة

حتي بين أفراد الجماعة الواحدة في الإسلاميين فإن هناك الكثير من الخلافات التي لا يدري أصحابها أنها موجودة. علي سبيل المثال، هناك مبدأ في جماعة الإخوان المسلمين هو أن (الجماعة تتسع لما يتسع له الإسلام)، و هي عبارة براقة إلا أنها غير ذات معني حين نأتي إلي حيز التطبيق السياسي أو الإجتماعي.

في عام 1995 خرج مصطفي مشهور مرشد الإخوان بتصريح قال فيه إن المسيحيين في مصر عليهم أن يدفعوا الجزية. ثارت الدينا و ماجت مما دفع الإخوان لمراجعة هذا الرأي و خرجوا بتصريح قالوا فيه أنهم راجعوا هذا الرأي و إستقروا علي قبول الرأي الذي ينظر إليهم من جانب المواطنة. كلا الرأيين موجودين في الفكر الإسلامي بمعني أن كل رأي منهما له من يؤيده من العلماء، و كلا الرأيين له من يؤيده في الجماعة إلا أن أحداً لم يناقش كلا الرأيين و يختار أحدهما إلا حين حاولت الجماعة تطبيق رأي منهما أو التصريح به و فوجئت بالهجمة الإعلامية و الفكرية الشرسة و حين ظهرت أمامها مشكلات و تساؤلات أثارها معارضوا الإخوان.

كانت الجماعة تهدف بشكل أساسي إلي البقاء، مجرد بقاءها أمام الأجهزة القمعية كان في حد ذاته إنجازاً، بالتالي كان من أهدافها تقليل الخلافات بين أفرادها إلي أقصي حد و البحث عن أقل القليل الذي يجمع أكبر قدر ممكن من الأفراد ولا يفرق. لهذا لا تجد للإخوان مثلاً رؤية موحدة عميقة سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية، رؤية لتفاصيل دور الدولة و أسلوب إدارتها لأن التنظير عموماً لا يأخذ إحتراماً في فكرهم لأن مناقشة التفاصيل من دواعي الإختلاف، و كان هذا واضحاً في أن كماً محترماً من الإنتقادات التي وجهها شباب الإخوان لد. هبة رؤوف عزت حين قالت كلمة (رجال خيرت الشاطر) كان إنتقاد بأنها لا تفعل شيئاً سوي الكلام بينما هم الإخوان من يتحركون علي الأرض فعلياً.

ربما كان هذا الأسلوب مناسباً في مرحلة سابقة حين كان مجرد البقاء و الإستمرار هو الهدف الأكبر، إلا أنه عند التطبيق اليوم فستظهر الإختلافات الفقهية و السياسية ولابد حين نطالب بتطبيق الشريعة أن ندرك أن بيننا و بين بعضنا إختلافات فكرية ولابد من إختيار طريقة لحل هذه الخلافات، و علي قدر علمي لا توجد وسيلة أفضل من وسائل الديمقراطية.

الأزهر كمرجعية

نادي البعض بأن تكون مؤسسة مثل الأزهر هي المرجعية في تفسير النصوص و إستنباط الآراء الفقهية. هناك مبدأ في الدول الديمقراطية أن أي شخص غير منتخب لا ينال سلطات كبيرة، لهذا مثلاً كان رئيس الأركان في الجيش الأمريكي حتي عام 1986 ليست له سلطة إعطاء الاوامر لقادة الأسلحة، لأنه شخص معين و غير منتخب بالتالي فلا يجب تركيز هذه السلطة الضخمة في يده. حين طالب الفكر الرأسمالي بإستقلال البنك المركزي، لتجنب أن تأمره الحكومة بسياسات مالية تحسن من صورتها في المدي القريب و تؤذي إقتصاد البلاد علي المدي البعيد ظهرت الدعوات الرافضة لأن ينال شخص معين غير منتخب كل هذه الصلاحيات الإقتصادية الضخمة بالتالي كان الحل الذي وصل إليه السياسيون و الإقتصاديون أن الكونجرس لابد من أن يوافق علي تعيين محافظ البنك المركزي و يمكنه أن يقيله إن رأي في سياساته و أفكاره الإقتصادية ما يضر البلاد.

بالتالي إعطاء أي مؤسسة أيا ما كانت هذه السلطة بينما أعضاء هذه المؤسسة غير منتخبين بل هم أشخاص معينين ترقوا في المناصب الوظيفية بالتدريج يعارض هذا المبدأ الديمقراطي الأساسي في الثقافات الغربية و يؤسس لدرجة محترمة من الديكتاتورية و فرض الآراء علي الناس، لأنه لا شيء يضمن أن يكون كل علماء الأزهر مخلصين في الوقت الحالي و في المستقبل و لا شيء يضمن أن يظل فكر الأزهر و فهمه للنصوص و تعامله معها موافقاً و مرضياً لأغلبية الشعب.

-——————————————————————–

في التسعينات أعد البنتاجون تقرير بالموقف الإستراتيجي للولايات المتحدة خاصة بعد إنهيار العدو الأكبر، الإتحاد السوفيتي. في هذا التقرير، قال خبراء البنتاجون إن أحد أهم الأخطار التي تتهدد الولايات المتحدة هي أخطار الإرهابيين، سواء كانوا إسلاميين أو غيرهم. وصفهم هذا التقرير بأنهم أشخاص خرجوا من مجتمعات تعرضت للقهر سواء بسبب أمريكا أو بسبب حكامها المواليين لأمريكا (لا توجد مواربة أو تجميل للحقائق أو حتي أي خجل بدافع أخلاقي لدي من كتبوا هذا التقرير) لهذا فإن الإرهابيين صاروا أشخاصاً يعرفون ماذا يكرهون و لكنهم لا يعرفون ماذا يريدون. العبارة ترن في ذهني منذ أن قرأتها فهي تحليل جيد لمجتمعنا عموماً الذي نشأ علي قهر السلطة و قهر عدد من رجال الدين الذين نادوا بأننا ليس من حقنا الخروج علي هذه السلطة، بالتالي فالكل يعرف ماذا يكره و لكنه لا يعرف ماذا يريد، أو بعبارة أصح ليس في ذهنه شكل محدد لما يريد و خطوات محددة يصل بها لهذا الذي يريده.