الإسلاميون و السياسة

منذ ما يقرب من عشر سنوات قرأت كتاب (كيف ندعو الناس) لمحمد قطب. فكرة الكتاب الرئيسية أنه يرفض ما يقوم به الإسلاميون من ممارسة السياسة و دخول المجالس النيابية و المحلية، لأنه يري أن الناس فكرياً مازالت ضائعة، لا يعرفون أفكاراً أساسية في الإسلام (مثل فكرة تحكيم شرع الله) و تملأ عقول الكثير منهم الكثير من الأفكار الإجتماعية الخاطئة. كان محمد قطب يري أن الإسلاميين عليهم أن يصلوا بالناس لدرجة معينة من الوعي الديني قبل أن يتحركوا سياسياً.

الفكرة لم ترق لي لأني لم أر تعارضاً بين هذا و ذاك. يمكن للإسلاميين أن يدخلوا المجالس المحلية و النيابية و يحققوا ما يمكنهم من خير للناس علي المستوي السياسي و المعيشي من خلال مشروعات قوانين، تنغيص عيش المسئولين الفاسدين بالإستجوابات و طلبات الإحاطة، الخ، و في نفس الوقت يمكنهم أن ينموا عقول الناس و فكرهم و وعيهم علي المستوي الديني و غير الديني. الخطأ فقط يحدث إن تم التركيز علي جانب و إهمال الآخر. عندما قامت الثورة و دخل الإسلاميون بثقلهم في المشهد السياسي ظهرت ظاهرة إستغلال الدين في السياسة بشكل رهيب. هناك الكثير من الخلافات السياسية و الإدارية و لكن بمعجزة ما تتحول كل هذه الخلافات في وجهة نظر مؤيدي الإسلاميين إلي صراع بين الإسلاميين و كارهي الإسلام. حينما ثارت الخلافات عند تغيير النائب العام و إصدرا مرسي لقرار دستوري لم يرضي البعض ثار الإسلاميون تأيداً لقراراته و نزلوا عند جامعة القاهرة. بالصدفة في نفس اليوم كنت أقود سيارتي في الدقي بالقرب من جامعة القاهرة و وجدت نفسي و قد غرقت في بحر من الجماهير من الملتحين المتجهين للجامعة مؤيدين لقرار الرئيس. المشكلة أن كل الهتافات و اللافتات كانت تؤيد (تطبيق شرع الله) و آيات مثل (و الله يحكم لا معقب لحكمه). ما علاقة تطبيق شرع الله بإقالة النائب العام و الصراع مع المحكمة الدستورية؟

من المنطقي أن يسيء البعض من محدودي الذكاء أو العلم فهم الأمر، أو أن يدخلوا الشريعة في نقطة ليست لها علاقة بالشريعة، و لكن ما أنتظره هنا هو أن يخرج عدد من قيادات الإسلاميين رافضين لمثل هذه المقولات و موضحين طبيعة الصراع أو الخلاف، و لكن لم يحدث. في حوار لي مع أحد أصدقائي من الإخوان حول هذه النقطة و حول الدعاة الذين يستغلون الدين في السياسة حتي و إن كانوا من خارج الإخوان قال لي أنه و عدد من شباب الجماعة كانوا ينقلون لقياداتهم أنهم يرفضون الوقوف تحت منصات أشخاص معينين من الدعاة الذين يخلطون الدين بالسياسة أو من يتبنون أفكاراً متشددة دينياً فكان الرد من القيادات أن مثل هؤلاء لهم شعبية و نحن نحتاج لهم و لأتباعهم في صراعاتنا السياسية ولا نستطيع حالياً رفضهم أو إنكار ما يفعلون !

في نفس جسلة الحوار قلت له إن الإخوان يقومون بالكثير من الخدمات الإجتماعية و عند الإنتخابات ينتخبهم الكثيرين بسبب معرفتهم بهم كأشخاص يديرون أعمالاً خيرية إلا أن العمل الخيري يختلف عن السياسي و أن علي الإخوان أن يفصلوا في أذهان الناس بين هذا و ذاك. كان رد صديقي أن أحد قيادات الإخوان تحدث في هذه النقطة قائلاً إن هذا له علاقة بمستوي وعي الناخب المصري. إن إرتفع مستوي وعي الناخب سيتغير أسلوب الإخوان، أما الآن فإن لم يفعل الإخوان هذا فإن هناك الكثيرين ممن سيفعلوا. هذا منطق عبر عنه صديق آخر بأنه شبيه بأن تري فتاة حسناء يتكالب عليها الناس لإغتصابها فتقول (ما دامت ستغتصب في كل الأحوال فأنا أولي بإغتصابها منهم).

المشكلة التي لم أنتبه لها إلا مؤخراً هي أن هناك تعارض بين العمل السياسي و توعية الناس. الديمقراطية الحالية توصف بأنها ديمقراطية قائمة علي الشعبية Popularity based democracy، بمعني أن الأكثر شعبية يفوز في الإنتخابات. المشكلة أن الشعبية عادة ما تكون مرتبطة بأفكار بسيطة غير مركبة محركة للعواطف، مثل الدين، الجنس، الخ. هناك حادثة ذكرها المسيري عن ممثلة افلام إباحية ترشحت للبرلمان الإيطالي و كان برنامجها الإنتخابي هو أن تنزع ثيابها أمام الناخبين، و قد فازت بالفعل بعضوية البرلمان. هذا نموذج صارخ علي أن الشعبية يمكن أن تأتي من أشياء حقيرة القيمة.

وعي الناس الذي يجب رفعه لا يتوقف عند السياسة. إحدي زميلات أمي كانت تعد دراسة عن تغذية الأطفال و تقارن بين تغذية الأطفال في الطبقات الفقيرة و الغنية. في هذه الدراسة صنفت الأطباء علي أنهم من الطبقات الغنية، و لكن الأستاذ المشرف علي الرسالة علق علي هذا بأن أجر الخادمة أعلي من أجر الطبيبة. عندما سمعت أمي هذا التعليق قالت إن الخادمة إن توافر لديها المال فستطعم أبناؤها الكثير من اللحم، هذه هي فكرتها عن الوجبة الجيدة، و لكن الطبيبة تعرف مفهوم الوجبة المتكاملة التي تحتوي علي أشياء مثل الخضروات و الفواكه و التي إن لم تكن غالية الثمن فإنها ستوفر للطفل تغذية أفضل من أن تملأ بطنه بأطنان من اللحوم.

الفكرة هنا في العقلية التي تنفق المال و ليس في كمية المال وحدها.

علي حسب ما رأيت من أعمال الإسلاميين الخيرية فإن قليل منها يهتم بتنمية العقلية، سواء في السياسة أو في باقي مناحي الحياة، و أعمالهم الخيرية تركز علي الجوانب المادية و تهمل تغيير أفكار الفقراء و البسطاء لجعل حياتهم أفضل.

و لكن في السياسة بالذات كنت أنتظر من الإسلاميين أن يرفعوا من قيمة وعي الناس، أن لا ينتظر الإخوان أن ينمو وعي الشعب السياسي و لكن أن يعملوا هم علي تنميته، أن يعلم الإخوان الناس التفرقة بين آداء الشخص أو الجماعة في العمل الخيري و العمل السياسي، حتي و إن إنعكس عليهم ببعض الخسارة السياسية و لكن للأسف لم يحدث. كنت أتوقع أن يخرج من قياداتهم من يرفض تحويل كل القضايا السياسية إلي صراع بين الإسلام و أعداء الإسلام، لا أن ينظر للإسلام علي أنه ورقة رابحة تأتي بالكثير من المؤيدين.

أحيانا ما يلوم علي البعض لأني أنتقد الإسلاميين ولا أنتقد غيرهم من السياسيين، و الإجابة عادة ما تكون لأنهم في الحكم و لأني أشترك معهم في المرجعية التي أحاسبهم بناء عليها. الناس تنتظر من المتدين سلوكاً مختلفاً عن غيره من الناحية الأخلاقية في المقام الأول. هناك الكثير من الكتب التي تتكلم في السياسة و الطب و الهندسة بالتالي الناس لا تنتظر من الدين مزيداً من المعلومات الطبية أو السياسة أو الهندسية، و لكنها تنتظر من الدين أن يغير من أخلاق المتدينين .

بعبارة أخري أنا لا أنتظر من المتدين أن يمارس نفس الممارسات السياسية التي يمارسها غيره بكفاءة أعلي، بل أنتظر منه سلوكاً مختلفاً من الناحية الأخلاقية، أنتظر منه أن تكون في يده ورقة رابحة (مثل تحويل كل القضايا السياسية إلي صراع بين الإسلام و أعداؤه) و يتركها فقط ليرفع من وعي الناس أو طلباً لرضا الله.