إيران و الثورة

إنتهيت من قراءة كتاب (مدافع آية الله) لهيكل، و هو كتاب من الكتب القليلة له التي لا تتحدث عن فترة حكم عبد الناصر أو السادات، و هي الفترات التي لا آخذ كلام هيكل عنها بالكثير من المصداقية لأنه كان له دور في صنع القرار في عهد عبد الناصر و كان علي خلاف مع السادات لذا لا يكون حديثه عنهما حيادياً.

إشتريت الكتاب لأني كنت أرغب في قراءة ما كتب عن الثورة الإيرانية، لأنها تتميز عن غيرها بأنها ثورة قامت علي أساس ديني. ما سأكتبه هنا هي نقاط هامة في النظر إلي الثورة الإيرانية عرفتها من الكتاب و تعليقي عليها.

الجيش

منذ إختراع الطائرات و الدبابات و المدفعية، لم تعد الجماهير تستطيع أن تقوم بالثورة في أي دولة إلا إن كان الجيش مشاركاً في الثورة أو علي الأقل جيشاً ضعيفاً. الشرطة لا تستطيع أن توقف الجماهير الغفيرة لأن الجماهير تفوق الشرطة في العدد و من الممكن أن تتساوي معها في إمتلاك الأسلحة الخفيفة. الجيش بطائراته و دباباته يمثل نقطة قوة للنظم الحاكمة في مواجهة ثورات الجماهير، و لابد أن يقوم الجيش بالثورة أو يشارك فيها لكي تنجح الثورة. في مصر قام رجال الجيش بثورة 1952، في الإتحاد السوفيتي قامت الثورة الشيوعية بعد أن خرج الجيش من الحرب العالمية الأولي و قد فقد 90 بالمائة من قوته.

بالإضافة إلي تميز الثورة الإيرانية بأنها ثورة قامت علي أساس ديني، فإنها تتميز بأنها ثورة قامت في دولة جيشها قوي، و لم يشترك الجيش في الثورة. الشاة كان يخاف من قوة الجيش و قيامه بإنقلاب يوماً ما لذا قام بعدة إجراءات وقائية. علي سبيل المثال كان يرسل الجنود و الضباط بعيداً عن مدنهم، لذا إن كنت أنت من أصفهان فإنك تخدم في طهران، و إن كنت من طهران فإنك تخدم في أصفهان، و هكذا.هذا لا يسمح بأن يكون الجيش من وسط الجماهير في المدن التي يتواجد فيها. بالإضافة إلي هذا فإنه أسند مناصب حساسة (مثل إدارة الإتصالات) إلي اقليات مثل البهائيين، ليضمن عدم إنخراطهم في صفوف الشعب، كما أنه لم يسمح بسهولة الإتصال بين قيادات الجيش المختلفة ليمنع إتحادهم يوماً ما ضده في إنقلاب، و هو الأمر الذي ساهم في الإرتباك الذي ساد صفوف الجيش حين قامت الجماهير بالثورة.

كان الخميني علي علم بأن الجيش هو النقطة الأساسية في نجاح أو فشل الثورة. من منفاه في باريس قام بإرسال خطب دينية عديدة موجهة إلي الضباط و الجنود، تخبرهم أنهم يطيعون الشيطان بإطاعتهم للأوامر الصادرة من قياداتهم، ويحث الشعب علي عدم الإشتباك مع الجنود أو حتي إلقاؤهم بحجر، و التحدث إليهم و إستمالة قلوبهم و عقولهم، حتي إن أطلق عليهم الجنود النار، فإن تقديم أنفسهم للشهادة خير من رفع السلاح في وجه إخوانهم. لاحظ هنا أن فكرة الإستشهاد تحتل مكانة كبيرة في نفوس الشيعة، بسبب تراثهم الديني الذي يرفع من حادثة إستشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه.

بالفعل نجحت خطب الخميني. قامت الجماهير بالعديد من الثورات التي لم يتعرضوا فيها للجيش و سقط عدد لا بأس به من القتلي، ولكن في المقابل تكررت حوادث ترك الجنود و الضباط للخدمة و الفرار من الجيش بأسلحتهم، حتي وصل الأمر إلي كتائب دفاع جوي كاملة تترك الخدمة العسكرية و تهرب باسلحتها. في النهاية حين قامت الثورة تحدث كبار الضابط (الذين كانوا يتقاضون مرتبات خرافية و يدينون بولاء كامل للشاة) عن أنهم قادة بلا جيش ليقودوه.

الرجل الواحد

في الفكر السني كل يؤخذ من كلامه و يرد إلا الرسول عليه الصلاة و السلام. لا يوجد تقديس لبشري ولا يوجد بشري معصوم. الأمر بالطبع قد يزيد عن حده حتي إنك اليوم إن قام أحدهم ليقول أن المرء مكلف بخمس صلوات في اليوم لوجد أحد العباقرة الذي سينتقده و يجد ثغرات فيما يقول.

في الفكر الشيعي الأمر مختلف، حيث يمثل القائد الديني شخص معصوم، و كلامه ليس محل مراجعة أو مناقشة. هناك عدة مناصب دينية، أعلاها هو آية الله العظمي. قام الشاة بالقبض علي الخميني حين كان منصبه (آية الله)، و كان قد تقدم بأطروحته إلي (آيات الله العظمي) للحصول علي منصب آية الله. بعد القبض علي الخميني بعدة أيام أجاز (آيات الله العظمي) أطروحته و بالتالي صار هو أيضاً (آية الله العظمي). هذا معناه أنه لا يمكن للشاة أو للسافاك (جهاز المخابرات الإيراني الرهيب) إحتجازه و إلا صار هذا خرقاً لأحد المباديء الدينية في العقيدة الشيعية، و الذي قد يؤدي إلي ثورة جماهيرة لا تحمد عقباها، لهذا إضطر الشاة للإفراج عنه و نفيه حيث ظل في المنفي أربعة عشر عاماً و خطبه تتوالي من باريس إلي إيران تدفع الشعب للثورة التي تمت في نهاية الأربعة عشر عاماً.

هذه العصمة التي ينالها الإمام هي نقطة قوة و نقطة ضعف. نقطة قوة في أنها وسيلة لتجميع الناس تحت قيادة شخص واحد و هذا ما حدث بالفعل و إستغله الخميني ببراعة. نقطة ضعف لأن أي إنسان يخطيء و يصيب. حين يتخذ أحدهم القرارات ولا يراجعه أحد فإن هذا يؤدي إلي كارثة. الخميني كانت له آراء عجيبة غير منطقية بالنسبة لأي إنسان أيا ما كان توجهه السياسي أو الديني، فحين سأله هيكل مثلاً عن أزمة البطالة التي تعصف بالشباب الإيراني أجاب الخميني بأن الثورة لم تقم لإطعام الشعب ! بالإضافة لهذا فإن الأشخاص الذين يملكون تأثيراً علي الخميني كانوا يجتمعوا به ثم يخرج الخميني و ينقل ما قالوه و ما أقنعوه به من آراء و عندها يقال أن هذه هي أراء الإمام المعصوم.

الدور الأمريكي

من ضمن مهام هنري كيسينجر- وزير الخارجية الأمريكي الداهية - كان قيامه بتدريب شباب الديبلوماسيين الأمريكيين. كان كيسينجر يعدهم بأن من يظهر منهم تميزاً فإنه سيقوم بنقله إلي منطقة الشرق الأوسط. حين سئل و لماذا الشرق الأوسط بالذات قال “هناك يمكنهم أن يشعروا بقوة بلدهم”. هنا نكتشف دوراً جديداً للدول العربية، فبالإضافة إلي دورها السياسي و الإقتصادي في المنطقة نجد أنها أيضاً تقوم بدور (الفاسوخة) التي تسمح لأمريكا بإستعراض قوتها السياسية و العسكرية.

لم يكن دور أمريكا الديبلوماسي و السياسي مماثلاً في إيران. ظل الأمريكييون يقومون بدور ديبلوماسي و عسكري هام في إيران علي مدي ثلاثين عاماً، حتي أنهم خططوا بنجاح لإنقلاب مضاد لإنقلاب جماهيري قام عام 1952، و لكن تقاريرهم عن فترة الثورة الإيرانية كانت في قمة التضارب. عدد الديبلوماسيين و رجال المخابرات المركزية الأمريكية الذي كان متواجداً في طهران وقتها كان مهولاً حتي أن السفارة ( و كانت تتكون من عدة مباني و ليس مبني واحد) قد ضاقت بهم. علي الرغم من هذا تجد أن تقاريرهم قمة في التضارب. تقارير لوزارة الخارجية تصف الجيش بقمة القوة يصاحبها تقارير من المخابرات تصف الجيش بمنتهي الضعف و عدم القدرة علي منع الثورة الوشيكة، التعامل مع الخميني علي أنه سياسي معتاد يبحث عن السلطة و المظهر الإعلامي الجيد و إهمال فكرة أنه صاحب قضية، و الكثير من الثغرات التي لا يقع فيها طفل صغير، التي كانت عاملاً هاماً في فشل أمريكا في قمع الثورة بل و التفاوض مع الثوار حين قام الشباب بإحتجاز موظفي السفارة الأمريكية كرهائن.

ما بعد الثورة

قبل قيام الثورة سأل هيكل الخميني “أنت الآن تستخدم مدفعيتك عن بعد ببراعة، و لكن إن قامت الثورة فإنك لا تملك مشاة ليحتلوا الأرض. ليس لديك كوادر لتحتل المناصب القيادية في إيران إن نجحت في إسقاط نظام الشاة” كان رد الخميني أن في بلادكم يحتل العسكريون المناصب القيادية دون أن تكون لديهم كفاءة سياسية أو إدارية أو إقتصادية، علي الأقل أنا أتميز بأني أتحرك من منطلق ديني و بالتالي أنا أقدر علي فعل الصواب.

بالفعل حدث ما ذكره هيكل. حين قامت الثورة تعاقب عدد كبير من رؤساء الوزارة علي إيران في فترة قليلة، و قد وصف أحدهم الوضع بأنه لا توجد دولة. هناك الخميني بتأثيره الرهيب في الجماهير و هناك الجماهير، و لكن لا توجد أجهزة تنظيمية. لا توجد وزارات أو جيش أو شرطة أو مؤسسات حكومية. ربما كان أحد دوافع ذلك أن الخميني نفسه (ربما مدفوعاً بشعبيته الكاسحة و جموع الشعب التي كانت تقطع الأميال فقط لكي تراه لمدة دقائق) كان يظن أن الكيانات التنظيمية في الدولة غير مهمة ما دام هو موجوداً.

خاتمة : عن الكتاب نفسه

الكتاب كتبه هيكل بالإنجليزية و نشر في إنجلترا ثم تمت ترجمته لينشر بالعربية. قام بالترجمة د. عبد الوهاب المسيري و الشريف خاطر، لذا فالترجمة جيدة. عادة ما تتميز لقاءات هيكل التليفزيونية بتشتت رهيب و عدم ترتيب بسبب كثرة معلوماته و تشابك الموضوعات التي يتحدث عنها، و لكن الكتابة تجعل أفكاره أكثر تنظيماً، أو علي الأقل هذا ما لاحظته من قرائتي لكتاب الإمبراطورية الأمريكية. للأسف هذا الكتاب ليس بنفس الدرجة من التنظيم، و يغلب عليه طابع التشتت المميز لحوارات هيكل التليفزيونية. بالإضافة إلي هذا فإنه يضيع عدد كبير من الصفحات في حكاية تاريخ إيران منذ الحرب العالمية الأولي، و هي فترة لا تهمني و ليس لها علاقة ضخمة بالثورة، و كان يمكن إختصارها أكثر من هذا بكثير، إلا أن الكتاب عموماً جيد و به كم لا بأس به من المعلومات الجديدة (علي الأقل بالنسبة لي).